الردع النووي الأطلسي

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 13 مارس 2023 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

تتعاقب التهديدات والإجراءات الروسية، التى توحى بإمكانية اللجوء إلى الخيار النووى، ابتغاء حسم الحرب الأوكرانية، بما يكفل إدراك المستهدفات الاستراتيجية للرئيس، بوتين. فأخيرا، حذرت موسكو، دول حلف شمال الأطلسى، من مغبة الانزلاق فى غياهب المواجهة المباشرة الشاملة، جراء تورط الحلف فى تلك الحرب. من خلال مواصلة تزويد الجيش الأوكرانى بالمنظومات التسليحية النوعية، وتدريبه على استخدامها. وبناء عليه، يتحسب، الناتو، لاحتمال إقدام روسيا على استخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، أو أى من جيرانها الأطلسيين.  
كمنظمة دفاعية، لا يمتلك الحلف الأطلسى، ترسانة تسليحية نووية. لكن ثلاثة من أعضائه يحوزون منظوماتهم الخاصة، وهم: الولايات المتحدة، 5800 رأس حربى نووى، وفرنسا، 300، والمملكة المتحدة، 215. وبموجب «اتفاقية مشاركة الأسلحة النووية الأمريكية فى أوروبا»، تنشر الولايات المتحدة زهاء 180 رأسا نووية من طراز «بى 61»، ضمن سياق استراتيجية «الغموض المحسوب». وهى تتوزع على قواعد عسكرية جوية بدول أطلسية مثل: قاعدة «إنجرليك» التركية، وقاعدتا «أفيانو ــ غيدى» الإيطاليتين، وقاعدة «كلاين بروجل» البلجيكية، وقاعدة «فولكل» الهولندية، وقاعدة «بوشل» الألمانية. كذلك، تتمتع دول أوروبية بما يُعرف بـ«المظلة النووية الأمريكية»، التى تقوم على افتراض مؤداه: أن أى عدو لن يجرؤ على مهاجمة دول الناتو بأسلحة نووية، لأنه يتعين عليه توقع هجوم نووى مضاد من لدن واشنطن.  لما كانت الولايات المتحدة، هى الدولة النووية الأطلسية الوحيدة المساهمة بمشروع المشاركة النووية، تخضع تلك الأسلحة لحراسة القوات الجوية الأمريكية، الملتزمة بقواعد العمليات الرئيسية للناتو، بالتعاون مع قوات الدولة المضيفة. كما تحتفظ واشنطن بشيفرات تشغيلها.  
كان «الردع النووى»، ولا يزال، إحدى دعائم العقيدة الاستراتيجية للناتو. وفى يونيو الماضى، اعتمدت قمة الحلف بمدريد، تحديث تلك العقيدة. حيث أكد أعضاؤه مجددا،على بقاء الناتو تحالفا نوويا؛ وأن العالم سيغدو أكثر خطورة، إذا تخلت الدول الأطلسية النووية الثلاث عن ترسانتها النووية. فى الوقت الذى تتعاظم التهديدات النووية من قبل روسيا، والصين، وكوريا الشمالية. كما أُقرت خطة لتزويد السفن السطحية لأعضاء الحلف بصواريخ من طراز «يو جى إم ــ27 بولاريس»، القادرة على حمل الرءوس النووية. وفى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، تم إبدال الرءوس النووية المُشتركة فى أوروبا بقنابل نووية أكثر قابلية للاستخدام. بدورها، رفضت دول أوروبا الشرقية الأطلسية، سحب تلك القنابل المشتركة من قواعدها، مخافة أن تعتبره موسكو تراجعا أمريكيا عن الالتزام بالدفاع عنها ضد أى اعتداء نووى روسى. 
يعتمد الردع النووى الأطلسى على الأسلحة النووية، التى تنشرها الولايات المتحدة فى أوروبا، وكذا القدرات والبنى التحتية العسكرية التى يوفرها الحلفاء. كما يستند كذلك على مبدأ «الدفاع الجماعى»، الذى تنص عليه المادة الخامسة من المعاهدة التأسيسية للحلف، معتبرة أى هجوم على أحد الأعضاء، عدوانا على الباقين، يستوجب ردا مشتركا. لكن ضبابية تلف موقف الناتو بشأن رده المرتقب على أى هجوم روسى نووى ضد أوكرانيا. فثمة من يتوقع ردا أطلسيا مماثلا. انطلاقا من إمكانية امتداد الآثار التدميرية لذلك الهجوم، حتى تطال دولا أطلسية مجاورة لأوكرانيا. ففى أكتوبر الماضى، حذر جوزيف بوريل، مسئول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى، روسيا من مآلات كارثية؛ تشمل تدمير الجيش الروسى، حال استخدم بوتين أسلحة نووية ضد أوكرانيا. مؤكدا أن استراتيجية الناتو النووية تهدف، بالأساس، إلى حماية حلفائه من مخاطر الإكراه الاستراتيجى. 
من منظور مغاير، وبما أنها لم تتحصل بعد على عضوية الناتو، تبقى أوكرانيا غير مشمولة بالمادة الخامسة، المتعلقة بمبدأ الدفاع الجماعى الأطلسى. ومن ثم، لا يستبعد خبراء، عزوف الحلف عن الرد بالمثل على استهدافها بهجوم نووى روسى. فلربما يكتفى بتدابير مضادة بديلة، مثل الإمعان فى عزل موسكو، أو استخدام الأسلحة التقليدية المتطورة لتدميرالقواعد، التى شنت منها هجومها النووى. أو تزويد أوكرانيا بمنظومات تسليحية متقدمة للقيام بذلك. لاسيما أن أى رد نووى أطلسى ضد روسيا، من شأنه تصعيد المواجهات باتجاه حرب عالمية مٌهلكة.  
بقصد الردع النووى، أجرى الحلف الأطلسى، نهاية شهر أكتوبر الماضى، مناورات نووية فى فضاء جوى واسع شمل بلجيكا، والمملكة المتحدة، وبحر الشمال، تحت مسمى عملية «الظهيرة الثابتة». شاركت فيها جيوش أربعة عشر عضوا، ليس من بينهم فرنسا، التى تستقل بسياستها المتعلقة بالردع النووى عن الناتو. فضلا عن 60 طائرة عسكرية، بينها قاذفات أمريكية بعيدة المدى من طراز« Bــ52». وذلك بغرض التدريب على استخدام القنابل النووية الأمريكية المشتركة فى أوروبا، وضمان بقاء الردع النووى للحلف فى أمن، وأمان، وفعالية. فضلا عن اختبار مدى جهوزية القدرات النووية لدول الناتو، لأية ضربة نووية محتملة، وتعزيز قدرات الطائرات المقاتلة على حمل رءوس حربية نووية. بما يبدد أى شكوك روسية، لجهة التزام الحلف بضمان «الردع النووى»، الذى كان ولا يزال، أحد مرتكزاته الاستراتيجية.  
ردا على مطالبة دوائر بلجيكية، قيادة الحلف بإلغاء مناوراته النووية، تجنبا لاستفزاز روسيا، التى قد تتخذ من الأراضى البلجيكية، حيث مقر الناتو، هدفا محتملا، حالة نشوب مواجهة نووية. التقى وزراء دفاع الحلف فى اجتماع لمجموعة التخطيط النووى، بغية دراسة وتقييم أحدث التطورات والتهديدات الروسية. وناقشوا آليات الاستعداد لهجوم نووى روسى محتمل ضد أوكرانيا، وسبل الارتقاء بمستوى الردع النووى للحلف. حيث أكد أمينه العام، أن تعزيز الردع النووى الأطلسى، يحفظ السلام، ويمنع العنف، ويعيق العدوان، مشيرا إلى أن إلغاء المناورات النووية، على وقع الحرب الأوكرانية، قد يرسل «إشارات خاطئة للغاية». 
يظل الردّ الأطلسى المتوقع حيال أى هجوم نووى روسى محتمل، مرتهنا بموقف واشنطن. وبينما تتبنى العقيدة العسكرية الأمريكية مبدأ «الردّ التقليدى»، للحفاظ على استراتيجية توازن الردع؛ ألقت تصريحات الرئيس، بايدن، بظلال من الغموض، حول القرار الأمريكى المرتقب بهذا المضمار. حيث تجنح واشنطن لسياسية «الغموض الاستراتيجى»، وعدم الإفصاح عن ملامح رد فعلها، حال استخدام روسيا سلاحا نوويا تكتيكيا ضد أوكرانيا. فلعل بايدن، يفضل التعامل مع، بوتين، بذات المنطق، الذى تعاطى به الرئيس الأمريكى الأسبق، جون كينيدى، مع نظيره السوفيتى، خروتشوف، إبان أزمة الصواريخ الكوبية، عام 1962. حينما أتاح الأول، للأخير، هامشا للتراجع الكريم. وكأننا ببايدن، يريد، من خلال امتناعه عن التلويح بالخيار النووى، أن يترك لبوتين، جسرا ذهبيا للعدول عن التصعيد وخيم العواقب فى أوكرانيا. لكن قوانين التاريخ والجغرافيا، كما السمات الشخصية، تفرض تمايزاتها وفروقاتها بين الحالتين. إذ يختلف بوتين، عن خروتشوف. ففى حين ارتضى الأخير، قبل نيف وستة عقود خلت، التراجع ووقف التصعيد، تجنبا للسقوط فى أتون الحرب النووية. يأبى، بوتين، اليوم، إلا الإصرار على استبقاء الوضع الراهن فى أوكرانيا، بأى ثمن. فلربما تتملكه المخاوف من ملاقاة أى من مصيرى بطلى الأزمة الكوبية. حيث اغتيل كينيدى، بعدها بعام واحد، بينما أُزيح، خروتشوف، من منصبه بعدها بعامين. 
رغم تشبثه بسياسة «الردع النووى»، لا يبدو، الناتو، تواقا للتصعيد. فقد اعتنق الحلف مبدأ «عدم البدء باستخدام السلاح النووى». كما يحرص على تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، التى تعد أكبر قوة نووية عالميا، بعدد رؤوس حربية نووية يبلغ 5977 رأسا، منها نحو ألفى رأس تكتيكى قيد التشغيل. مخافة أن تهوى الأمور فى دوامة حرب كونية ثالثة نووية. وفى مسعى لطمأنة موسكو، أعلن الأمين العام للحلف، أن  المناورات النووية الأطلسىية، التى تتزامن مع أخرى تجريها روسيا سنويا باسم «غروم»، لاختبار قاذفاتها، وغواصاتها، وصواريخها النووية؛ إنما هى مناورات سنوية مجدولة، لضمان الحفاظ على أمن وفعالية قدرات الناتو النووية. كما نفى أية علاقة لها بالأزمة الأوكرانية. 
وفى بيان له أكد الناتو أن مناوراته النووية، تم تحديد موعدها والتحضير لها، قبل الغزو الروسى لأوكرانيا؛ بوصفها تدريبات دورية روتينية، منبتة الصلة عن الأحداث العالمية الجارية. فلقد التزمت الطائرات الحربية الأطلسية المشاركة فيها عدم الاقتراب من الأجواء أو الأراضى الروسية. فيما لم يتم استخدام المنظومات التسليحية القتالية، أو القنابل، والذخائر الحية، خلال التدريبات. وبينما تؤكد واشنطن، عدم تأثر عقيدتها للردع النووى بالتوترات الحالية مع موسكو، يشدد الأمين العام للحلف، على أن الردع النووى الأطلسى، إنما يبتغى إرساء السلام، وردع العدوان، والحيلولة دون تعرض أى من أعضائه، أو حلفائه لإكراه استراتيجى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved