عولمة مُفتتة

مواقع عالمية
مواقع عالمية

آخر تحديث: الإثنين 13 مارس 2023 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع Project Syndicate مقالا للخبير الاقتصادى محمد العريان، يقول فيه بالرغم من أن العولمة، لعقود طويلة، عملت على ترابط التجارة والاستثمار، لكن كان لها تأثير سلبى على بعض البلدان كخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، ومع ذلك العولمة ليست فى طريقها للانحسار أو الإبطال بل التغيير، لذا وجب على الشركات والحكومات إيجاد بدائل لإعادة توصيل سلاسل التوريد.. نعرض من المقال ما يلى..
على مدى ثلاثة عقود من الزمن، كانت الشركات والحكومات فى مختلف أنحاء العالم تعمل استنادا إلى افتراض مفاده أن العولمة الاقتصادية والمالية ستستمر وتتقدم بخطى سريعة. ولكن مع خضوع النظام الدولى لضغوط شديدة فى السنوات الأخيرة، اكتسب مفهوم انحسار العولمة ــ فك الارتباط بين التجارة والاستثمار ــ مزيدا من الثِـقَـل بين الأسر والشركات والحكومات. لكن البيانات المتاحة تشير إلى أن العولمة لا تنتهى، بل تتغير.
قبل وقت ليس ببعيد، بدا الأمر وكأن التكامل الاقتصادى والمالى أصبح بلا حدود. لعقود من الزمن، بدت فوائد العولمة واضحة ومنيعة. وعمل الترابط المتبادل بين الإنتاج والاستهلاك وتدفقات الاستثمار على تزويد الأفراد المستهلكين بمجموعة أوسع من الاختيارات بأسعار مغرية، وتمكين الشركات من توسيع أسواقها وتحسين كفاءة سلاسل إمدادها. كما عملت أسواق رأس المال العالمية على توسيع القدرة على الوصول إلى الائتمان وخفض التكلفة التى يتحملها المقترضون من القطاعين العام والخاص على حد سواء. وانخرطت حكومات العالم فى ما بدا وكأنه سلسلة من الشراكات الـمُـربـِحة للجميع. أما التكنولوجيا ــ بما فى ذلك التحول المتسارع أخيرا نحو العمل عن بُعد ــ فقد جعلت الحدود الوطنية تبدو إلى حد كبير عديمة الأهمية.
ولكن بينما جعلت العولمة الأسواق تعمل بشكل أفضل، فإن صناع السياسات غفلوا عن عواقبها السلبية المرتبطة بالتوزيع. فقد تُـرِكَـت مجتمعات وبلدان عديدة خلف الرَكب، مما ساهم فى انتشار الشعور بالتهميش والإقصاء على نطاق واسع.
كانت النتيجة ردة فعل عنيفة ضد العولمة، والتى كانت أبرز تجلياتها متمثلة فى تصويت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة فى عام 2016. وسرعان ما انخرطت الولايات المتحدة فى حرب الرسوم الجمركية مع الصين، الأمر الذى أدى إلى تعميق الانقسام بين القوتين الاقتصاديتين. فى الوقت ذاته، عمل المستهلكون الغربيون بقوة متزايدة على إقصاء منتهكى حقوق الإنسان والدول التى تلحق الضرر بالبيئة. وأفضى غزو أوكرانيا إلى فرض عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا (إحدى دول مجموعة العشرين) واستخدام نظام المدفوعات الدولى كسلاح.
ترتب على كل هذا أن استنتج كثيرون أن العولمة انتهت. ولكن بدلا من الانقلاب الحاد فى الاتجاه المعاكس لما تحقق على مدى السنوات الثلاثين الأخيرة، يبدو من الأرجح أننا ندخل حقبة من العولمة الـمُـفَـتَّـتة التى تتسم بالإحلال وليس الإبطال.
• • •
يُعَد نظام العقوبات التى فُـرِضَت على روسيا مثالا واضحا على ذلك. على مدى العام الماضى، لم تتمكن القيود التى قادها الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة من تقليل صادرات روسيا من النفط بشكل ملموس، بل أعادت توجيهها إلى أماكن أخرى، بشكل أساسى إلى الصين والهند. على نحو مماثل، بدلا من تركيع الاقتصاد الروسى كما توقع كثيرون، أفضت العقوبات الشاملة إلى تقليص الناتج المحلى الإجمالى الروسى بنسبة 2% فقط، حيث تمكن التكنوقراط الروس من إيجاد الطرق لإعادة توجيه وتوصيل الأنشطة المحلية والخارجية. والأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج أن روسيا وبعض حلفائها أحرزوا بعض التقدم أيضا فى إنشاء نظام مدفوعات وتسويات موازٍ عبر الحدود، وإن كان بدائيا ويفتقر إلى الكفاءة.
من المرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال السنوات القليلة المقبلة، مع حرص الشركات بشكل متزايد على تنويع سلاسل التوريد بعيدا عن الصين ومع لجوء الحكومات الغربية إلى جلب التصنيع فى الخارج إلى البلدان القريبة والصديقة للحفاظ على إنتاج المدخلات الحرجة والصادرات الحساسة.
باختصار، سوف يؤثر ذلك الخليط من الصدمات الجيوسياسية، والاستراتيجيات الشركاتية، والقيم الاجتماعية المتغيرة، على أنماط التجارة والاستثمار على طول أربعة محاور رئيسية. مع حرص الشركات على اختيار المرونة قبل الكفاءة، فسوف تعمل بشكل متزايد على تحويل نهجها فى إدارة سلاسل التوريد من «حسب الحاجة» إلى «على سبيل الاحتياط». وسوف يأتى هذا فى وقت حيث تكتسب المخاوف الأمنية قدرا أعظم من الثِـقَـل فى الاعتبارات التجارية، وسوف تبتعد الشركات عن تقاسم المخاطر والشراكات العامة إلى ترتيبات أضيق تصميما. من ناحية أخرى، سيبحث المستهلكون على نحو متزايد عن التأكيد على الغرض فى تفاعلاتهم التجارية.
فى حين أن هذه العملية ستنتج فائزين وخاسرين، فسوف تعتمد هوياتهم إلى حد كبير على الكيفية التى سيتكيف بها صناع السياسات مع نموذج التشغيل الجديد للاقتصاد العالمى. على سبيل المثال، ستستفيد المكسيك من مبدأ دعم الأصدقاء الذى تنتهجه الولايات المتحدة، فضلا عن تحول قطاع الشركات إلى سلاسل توريد أكثر تنوعا. مع ذلك، كما أدركت الحكومة المكسيكية ذاتها، لن يُتَـرجَمَ الطلب الوطنى إلى طلب فَعّال ما لم يعمل صناع السياسات على التعجيل بالتقدم فى مجالات البنية الأساسية، والطاقة النظيفة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وما إلى ذلك.
فى عالَـم حيث تحرص الأسر على تجنب تفاعلات تجارية بعينها، يجب أن تعمل الحكومات والشركات بجدية أكبر لابتكار البدائل. يجب أن تعمل الشركات مع الحكومات، سواء فى الداخل أو الخارج، لتسهيل العملية الشائكة بطبيعتها والمتمثلة فى إعادة توصيل سلاسل التوريد والتعجيل بالتحول الأخضر. ينبغى لصناع السياسات على المستويين الوطنى والعالمى أن يعكفوا على مراجعة طريقة تفكيرهم وعملهم. كما ينبغى لمستثمرى الأجل الطويل أن يعملوا على دمج تحليلات جيوسياسية، واجتماعية سياسية، وبيئية فى استراتيجيات التخصيص التى يطبقونها.
فى حين قد يعتبر بعض المراقبين عبارة «العولمة الـمُـفَـتَّـتة» تناقضا لفظيا، فأنا شخصيا أعتقد أنها السيناريو الأكثر ترجيحا للاقتصاد العالمى. مع انقسام العالم على نحو متزايد إلى تكتلات متفرقة، قِـلة منها أكثر سيولة من غيرها، من المرجح أن تصبح العولمة أكثر ميلا إلى التضخم، مما يقلل من النمو المحتمل. يتوقف تجنب هذه النتيجة على كيفية تعامل الحكومات الوطنية والمؤسسات المتعددة الأطراف مع الواقع الاقتصادى الجديد. قد لا تنحسر العولمة بشكل كامل عن العالم، لكن هذا لا يعنى أننا نستطيع أن نفترض إبحارا سلسا فى المستقبل.

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved