حرية الإبداع وأخواتها..

علاء الأسواني
علاء الأسواني

آخر تحديث: الإثنين 13 أبريل 2009 - 6:13 م بتوقيت القاهرة

 لا أحب عادة أن أشغل القارئ العزيز بمشكلاتى الشخصية إلا إذا كانت تحمل جانبا عاما يفيد الناس.. من هنا فأنا أحكى هذه الوقائع لأول مرة:

فى عام 2002.. صدرت الطبعة الأولى من روايتى عمارة يعقوبيان، بعد أن نشرت على حلقات فى جريدة أخبار الأدب.. وهى رواية تنتمى إلى نوع أدبى يسمى بطولة المكان. حيث ينتقى الروائى مكانا حقيقيا معروفا ثم يتخيل الشخصيات والأحداث من خياله. والأمثلة على هذا النوع الأدبى كثيرة أشهرها رواية «جسر على نهر درينا» للروائى اليوغوسلافى ايفو أندريتش، التى تحكى تاريخا متخيلا لجسر موجود فعلا فى يوغوسلافيا.. ورباعية الإسكندرية للروائى الإنجليزى لورنس داريل التى وصف فيها أماكن حقيقية ما زالت موجودة حتى الآن فى الإسكندرية، ورواية ميرامار حيث استعمل أستاذنا العظيم نجيب محفوظ اسم بنسيون حقيقى فى الإسكندرية ثم تخيل شخصيات وأحداث الرواية..

بعد صدور رواية عمارة يعقوبيان كنت بين الحين والآخر أتردد على العمارة التى تحمل نفس الاسم فى شارع طلعت حرب فكان سكان العمارة يستقبلوننى بكل ترحاب ويؤكدون أنهم قرأوا الرواية وأحبوها.. وسارت الأمور بيننا على أفضل حال حتى نشرت الصحف، بعد صدور الرواية بأعوام، أن عمارة يعقوبيان ستتحول إلى فيلم سينمائى بميزانية إنتاج ضخمة.. عندئذ حدثت المفاجأة، فقد بدأ بعض السكان يرفعون ضدى قضايا يطالبون فيها بتعويضات كبيرة بزعم أننى أسأت إليهم لأنهم المقصودون ببعض شخصيات الرواية..

وكانت أغرب هذه الدعاوى مرفوعة من شخص لا أعرفه ولم أره فى حياتى قط.. ادعى فيها أنه المقصود بشخصية الصحفى الشاذ جنسيا علما بأنه لا يتشابه معه إطلاقا إلا فى اسمه الأول فقط. وقد طلب منى هذا الشخص مليون جنيه كتعويض ثم غير رأيه فطلب تعويضا بعشرة ملايين جنيه.. والحق أننى لم أنزعج كثيرا من هذه القضايا، أولا لأننى أثق دائما، تماما، فى عدالة القضاء المصرى العظيم.. حصن المصريين الأخير ضد الظلم والاستبداد.. وثانيا لأننى فعلا لم أقصد الإساءة إلى أى شخص..

ما زالت هذه القضايا منظورة أمام المحاكم.. باستثناء قضية واحدة صدر فيها الحكم الابتدائى.. وقد بذلت مجهودا كبيرا فى هذه القضية لكى أوضح لعدالة المحكمة طبيعة العمل الأدبى وكيف أن الخيال لا يمكن أن يسىء إلى أشخاص حقيقيين..

وتطوع للدفاع عنى مجموعة من المحامين الكبار هم الأساتذة: فايز اللاوندى وعمر حجاج ود. حسام لطفى وجمال الشنوانى.. وشهد معى فى القضية الدكتور سيد البحراوى الناقد وأستاذ الأدب المعروف وشرح لعدالة المحكمة أن الروائى لا ينقل الواقع لكنه يستعمله ويضيف إليه من خياله وبالتالى لا يمكن أن نحاكم الروائى على خياله حتى ولو تشابه بالصدفة فى بعض التفاصيل مع أشخاص حقيقيين.. وشهد أمام المحكمة أيضا المترجم الإنجليزى للرواية همفرى ديفيز وأكد أمام المحكمة أن القانون فى العالم المتقدم قد أقلع منذ زمن طويل عن قبول مثل هذه الدعاوى وأنه لا يجوز تطبيق قواعد السب والقذف على عمل روائى متخيل.

لأن القارئ يعلم من البداية أنه يقرأ خيالا مما ينفى ركن القذف والسب فى حق أى شخص بعينه من الأساس. وتضامن معى فى نفس القضية اتحاد كتاب مصر بمبادرة كريمة من رئيسه الأستاذ محمد سلماوى إدراكا منه لخطورة هذه القضايا حيث إنها تؤسس لسابقة قانونية تجعل الأدباء عرضة للمحاكمة من أى شخص قد تتشابه حياته بالصدفة مع أى شخصية روائية.. مما يشكل قيدا ثقيلا وإرهابا ضد كل من يكتب الرواية فى مصر. وبالرغم من كل ما قدمناه من شهادات ودراسات ودفوع قانونية فوجئت بأن الحكم قد صدر ضدى بالتعويض مبلغ 25 ألف جنيه للشخص الذى زعم أننى أسأت إليه.. أنا هنا بالطبع لا أعترض على هذا الحكم القضائى لكنى لما قرأت حيثيات الحكم تعجبت فعلا.. فالحكم قد وصف الرواية بأنها كتاب، وهو لم يتطرق كثيرا إلى موضوع الدعوى وإنما عاب على «كتاب عمارة يعقوبيان» دفاعه عن نماذج منحرفة فى المجتمع واحتواءه على تفاصيل لا يصح أن تخرج على نطاق علاقة المرء بزوجته (!)، وقد استأنفنا الحكم بالطبع.

تذكرت هذه القضايا وأن أقرأ محاكمة روائى آخر هو الأستاذ مجدى الشافعى الذى كتب رواية مصورة بعنوان «مترو» فتمت مصادرتها بزعم احتوائها على بعض الألفاظ الخارجة.. والحق أن عيون التراث العربى كثيرا ما احتوت على ألفاظ جارحة هنا وهناك فلم يقلل ذلك من قيمتها الفنية والإنسانية.. والأمثلة هنا بلا حصر أذكر منها: ألف ليلة وليلة والأغانى للأصفهانى والإمتاع والمؤانسة للتوحيدى والعقد الفريد لابن عبدربه وغيرها.. ثم قرأت مقالا للأستاذ إبراهيم عيسى عرفت منه، لأول مرة، أن روايته الجميلة «مقتل الرجل الكبير» مصادرة وممنوعة من التداول..

وفى نفس الأسبوع حوكم الشاعر حلمى سالم بسبب قصيدته «شرفة ليلى مراد» المنشورة فى مجلة إبداع.. وبالرغم من أن هذه القصيدة لم تعجبنى من الناحية الفنية إلا إننى فوجئت بصدور حكم قضائى بإلغاء ترخيص مجلة إبداع.. عقابا لها على ما اعتبرته المحكمة اجتراء على الذات الإلهية، والحق أن المبالغة الفنية بالاجتراء على المقدس الدينى كانت دائما من سمات الشعر العربى القديم والحديث جميعا ولعل أشهر الأمثلة القصيدة التى غنتها فيروز من الشعر الأندلسى:

«إذا كان ذنبى أن حبك سيدى فكل ليالى العاشقين ذنوب... أتوب إلى ربى وانى لمرة يسامحنى ربى إليك أتوب»

فالعاشق هنا يتوب إلى حبيبته بدلا من توبته إلى الله وقد كتبت هذه الأبيات منذ قرون طويلة فأحبها الناس وحفظوها ورددوها ولم يدر بذهنهم إطلاقا أن الشاعر قد كفر أو أنه يعبد حبيبته دون الله.. لكنهم فهموا ما كتبه فى نطاق المبالغة الشعرية المقبولة، لا أكثر ولا أقل.. كل هذه الوقائع تدل على أننا أمام ظاهرة مؤسفة فى مصر، هى مطاردة الأدباء ومصادرة أعمالهم وإنهاكهم بالملاحقات القضائية والتعسف فى فهم النصوص الأدبية والتعامل مع الخيال على أنه واقع واعتبار القصيدة مجرد كلام يجوز أن يطبق عليه قانون العقوبات.. ولنا هنا عدة ملاحظات:

أولا: إن محاكمة الأديب على خياله وإخضاع الأعمال الأدبية إلى تقارير الشرطة ومحاضر النيابة علامة على التخلف السياسى والحضارى، والمستقر فى الدول الديمقراطية أن محاكمة العمل الأدبى يجب أن تتم بواسطة نقاد الأدب وليس ضباط البوليس ووكلاء النيابة.

ثانيا: موضوعات هذه القضايا ليست قانونية وإنما هى أدبية وفنية بالأساس ومع احترامى الكامل العميق للقضاة فى مصر.. فإن برنامج الدراسة فى كليات الحقوق لا يحتوى على مواد النقد الأدبى والتذوق الفنى.. وبالتالى فإن القاضى المؤهل بجدارة للفصل فى النزاعات القانونية لا يكون بالضرورة مستعدا للفصل فى قضايا الأدب والفن.. إن تحقيق العدالة يقتضى إحالة مثل هذه القضايا إلى خبراء من أساتذة كلية الآداب وأكاديمية الفنون للفصل فى موضوعاتها.. تماما كما يحيل القاضى القضايا الخاصة بالهندسة أو التأمين أو العلوم المتخصصة إلى لجنة من الخبراء ليستضىء بتقاريرهم فى الحكم النهائى..

ثالثا: لا يمكن أن ندافع عن حرية الإبداع بمعزل عن الحريات الأخرى.. بعض الأدباء فى مصر يثورون بشدة إذا صودر ديوان شعر أو منعت رواية من التداول، بينما هم يرون المصريين جميعا يعتدى على حقوقهم السياسية ويعتقلون ويعذبون وتزور إرادتهم فى الانتخابات، فلا يحركون ساكنا ولا ينطقون بكلمة. وهذا الموقف المتناقض يفقد هؤلاء الأدباء مصداقيتهم لدى الناس.. لايمكن أن ندعو المصريين للتضامن مع شاعر صودر ديوانه ثم نتركهم يواجهون القمع والظلم وحدهم.. واجبنا أن ندافع عن الحرية بكل أشكالها.. وعندما يتحرر المصريون من الاستبداد، عندما تتحقق الديمقراطية.. عندئذ لن يمنع كتاب ولن تصادر قصيدة ولن يعاقب المؤلف على خياله.. الديمقراطية هى الحل.
العنوان الإلكترونى
Dralaa57@yahoo.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved