قصة اغتيال معلن لجريدة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأربعاء 14 مايو 2014 - 4:38 م بتوقيت القاهرة

هذه ليست قصتها هى بالتحديد ولا هى خاصتها.. هى حكاية لاغتيال معلن لأى مشروع أو حدث أو فعل بإمكانه أن يضىء شيئا من النور فى عتمة اريد لها أن تكون اكثر استدامة من أى أمر آخر.. هى حكاية اغتيال علنى فى وضح النهار وأمام أعين المارة والمراقبين المحليين والإقليميين والدوليين دون أن يثير الأمر حتى ولو فضول البعض ليطرح السؤال الأزلى لماذا هذه الجريدة فقط؟

•••

فى البدء كانت الفكرة التى لم تكن إلا طموحة بعض الشىء ومهنية كثيرا أن تكون هناك جريدة من نوع آخر لا تنام فى حضن السلطة ولا تغازل المعارضة ولا تستمع إلى رأى المعلن أولا ولا يكون الربح هدفها والترويج لثقافة السوق ورأس المال المتوحش.. شىء من الخيال هى؟ ربما! ولكن بعد أن خرجت للنور فى ذلك الصباح المنعش وقف طابور من المعنيين والمحبين والعشاق لهذا المولود الجديد اصطفوا حول المطبعة والعدد الأول يرى النور.. استنشق الجميع رائحة الحبر وحمل كل منهم نسخته أو نسخة وعاد ليسرق بعض الراحة قبل الاستماع لآراء القراء فى اليوم الأول.

•••

كانت الاوركيدة شعارها.. فى ذلك اليوم امتلأت المجمعات التجارية والشوارع بزهرة الاوركيدة مع العدد التجريبى أو العدد صفر. استغرب الكثيرون ذلك فهذه عادة جديدة، أن يوزع العدد الأول من جريدة مع زهرة الاوركيدة.. ضحك آخرون وربما سخروا... ردد البعض هؤلاء حالمون لن يطول حلمهم.. وجاء آخرون مهنئين ولكن متأبطين بعض من شكوكهم وتساؤلاتهم.. قال ذلك الصحفى المخضرم هذا الوطن لا يتحمل جريدة دون لون أو طعم خاص.. لمح كثيرا وما لبث وأن افصح الجرائد فى البلد تنتمى إلى طوائفها فهذا وطن مزقته الطائفية والمذهبية.. ضحكنا نحن الحالمين وقلنا بل هذا وطن لم يعرف الطائفية حتى زرعت وروت ووو!! ولذلك فهذه الجريدة للطائفة الثالثة فى هذا الوطن وهى المواطن فقط دون طائفة.. وهى جريدة لأولئك المقبلين على الحياة بكل حب والمنتمين للغة الكون والمستظلين بإنسانيتهم فقط لا دينهم ولا قبيلتهم ولا عائلتهم.

•••

حبس الجميع أنفاسهم حتى المائة اليوم الأولى وكانوا فى انتظار السقوط وبقى الآخرون ينتظرون بفارغ الصبر.. الآخرون لم يكونوا دوما آخرين بل كثيرا منهم كانوا من الأقرب لفكر وهوى تلك الجريدة!! كثيرون يفرحون للفشل ظنًا منهم أنه فشل للآخر وليس للوطن وحرية الرأى.. بقيت هى تتعلم وتعلم.. فجأة قامت الجرائد النائمة فى حضن الكسل من سباتها غيرت فى اخراجها واصبحت اكثر متابعة للحدث فالخبر لا ينام فى ادراجها لينشر بعد يوم أو اكثر.. كانت هى وبتواضع شديد من علمتهم أن الجريدة اليومية لا تتحمل الخبر البائت.. بدأت السرقات تكثر ليس فقط فى الشكل والموضوع ولكن حتى فى الصحفيين والمخرجين والعاملين فى الجريدة.. كل ذلك وكنا نقول هذا صحى وجيد للصحفى وللصحافة فى البلد.. عادت لتذكر القارئ بأنه ليس معزولا فى جزيرته بل هو جزء من محيط واسع يتسع اكثر فأكثر.. راحت تنقل له الثقافة والفكر بنفس الشغف الذى تنقل فيه الخبر.. وفتحت اذرعها قبل صفحاتها لكل الأهواء والآراء.. هنا فضاؤكم لا حدود له سوى الرصانة وعدم الانزلاق إلى الإثارة والصحافة الرخيصة.. كان العمل اليومى هو مراجعة الأخطاء وعدم تكرارها وخاصة تلك التى تمس الانسان وخصوصيته وسمعته ووو.. وكان الانسان البسيط موضوعها دخلت الكثير من الغرف التى كانت مغلقة وفتحت بيوت الفقراء والعاملين لتنقل همومهم، فالمسئول مهم فى حدود مسئوليته وليس عباءته وعلى من صافح فى ذلك اليوم ومن استقبل لتبادل الابتسامات الباهتة والوقوف أمام عدسات الكاميرات.. والنائب مهم طالما عرض السؤال الملح والأهم للوطن والمواطن.. هكذا أرادت ربما اخطأت كثيرا وربما قصرت ولكن كانت تلك سياستها التحريرية.. والأكثر والأهم حاولت كما لم يحاول أحد الخروج من عباءة القبيلة والدولة والطائفة والدين والفكر المتخلف!!

•••

لم تمض سوى بضعة اشهر فى السنة الأولى بدأ العمل الدقيق والممنهج لإسقاطها الذى تحول فيما بعد إلى قتلها علانية وأمام أعين القراء! فى الإشارات الأولى التخلص من بعض العاملين والمعنيين ببقائها على ذلك الخط الدقيق.. فكان أن تساقطت الرءوس واحدة تلو الأخرى حتى فرغت من الكثيرين من الحالمين.. ثم بدأ العمل على إفلاسها ليس المعنوى فقط بل المادى وهكذا وبعد سنوات معدودة وقبل أن تكمل عامها الخامس كان القاتل والجلاد قد وضعوا المقصلة وعلقوا المشانق فى وضح النهار وأعلنوا إصدار العدد الأخير وكتبوا ورقة نعى مثيرة للشفقة.. ثم لم يكتفوا بذلك بل، وككل المشاريع التى قد تتحول إلى رمز، راحوا يزيلون أثرها ويبيعون المبنى والاسم فى المزادات العلنية.. هى حقيقة قصة اغتيال معلن لجريدة!! يا لا حزنى وعجبى كلما عدت للوطن ابحث عن جريدة تحمل رائحة بنقاء تلك الجزيرة وصفاء بحرها واتعثر على صفحات لا تنقل سوى مزيد من الكراهية وخطابات التملق المتقن حد الغباء... قد يكونون نجحوا حتما ولكن ربما، فقط ربما قد يكتب التاريخ الكثير عن تلك الحكاية...عن تلك الجريدة الحلم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved