أطفال الشوارع

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الجمعة 13 مايو 2016 - 11:40 م بتوقيت القاهرة

ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية فى ١٠/٥ الحالى أن قوات الأمن المصرية ألقت القبض على أعضاء فرقة غنائية ساخرة تسمى «أطفال الشوارع»، تنفيذا لقرار ضبط وإحضار أعدته النيابة العامة. ونقلت عن المصادر الأمنية والمحامين المصريين قولهم إن التهمة التى وجهت إلى أعضاء الفرقة الستة أنهم قاموا بالتحريض على مؤسسات الدولة. إلا أن وكالة أنباء أسوشيتدبرس قالت إنهم انتقدوا الرئيس عبدالفتاح السيسى وكان موقع صحيفة الأهرام قد ذكر فى ٧/٥ أن نيابة مصر الجديدة أمرت بحبس أحد أعضائها (عز الدين خالد ــ ١٩ سنة ــ طالب بكلية التربية) لمدة ٤ أيام على ذمة التحقيق.. وفى وقت لاحق ألقى القبض على بقية أعضاء الفرقة.

كانت تلك المرة الأولى التى سمعت فيها باسم الفرقة، الأمر الذى أغرانى بتتبع نشاطها. فوجدت أنها ضمت عددا من الهواة الذين لجأوا إلى تأليف بعض المقاطع الساخرة التى تنتقد الأوضاع السياسية الراهنة فى مصر، وأنهم ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعى. وعلمت أنهم نشروا أخيرا مقطعا تحت عنوان «السيسى رئيسى»، كما تندروا على شعار «تحيا مصر». وقد حاز فيديو الفرقة الأخير على أكثر من ٢٨٥ ألف مشاهدة على صفحتها على موقع فيسبوك.

حين طالعت المقاطع التى أعدها هؤلاء وجدتها خفيفة الظل وبسيطة التعبير، ولم أجد مضمونها يختلف كثيرا عن الرسوم الكاريكاتورية التى تنشرها الصحف المستقلة. ورغم ضعف ثقافتى الفنية فإننى لم أجد فى أداء «أطفال الشوارع» شيئا يختلف كثيرا عما يتردد فى حلقات الجالسين على المقاهى، الذين يتداول بعضهم أحدث النكات والقفشات فى السياسة وغير السياسة.

لا أعرف من الذى نصح بملاحقة الفرقة وسخرياتها المرة. وأخشى إذا استمرت تلك السياسة أن يتحول نصف الشعب المصرى إلى متهمين لأن النكتة لا تفارق جلساتهم. فى الوقت الذى لا أشك فى أن الداخلية قدمت خدمة جليلة للفرقة المغمورة. حين حولت أعضاءها إلى نشطاء سياسيين رغما عنهم ووفرت لهم حملة دعائية لم يحلموا بها. ذلك أن الإجراء الذى اتخذ بحقهم صار خبرا بثته الإذاعة البريطانية فى أكثر من فقرة، وتناقلته بعض وكالات الأنباء العالمية. كما أنه حظى بحصة معتبرة من النشر فى الصحف المصرية والعربية.

ما لاحظته أيضا على التغطية الإخبارية للحدث أن مصادر التحقيق كررت اتهام الفرقة بالإساءة إلى مؤسسات الدولة. وفيما تابعته من تسجيلات فإننى لم أجد أثرا لمثل تلك الإساءة، فضلا عن أنها لم تتضمن إشارة إلى أى مؤسسة فى الدولة. وحدها كانت وكالة أسوشيتدبرس التى تحدثت عن أن إشارة الفرقة إلى اسم الرئيس السيسى هى السبب الحقيقى لإجراءات الضبط والتحقيق التى أجريت لهم. وكانت جريدة «الشروق» ضمن الصحف التى ذكرت فى أحد عناوينها: «التحقيق مع فرقة أطفال الشوارع فى التحريض على مؤسسات الدولة».

القصة لها دلالاتها التى تثير الانتباه. ذلك أن لجوء تلك المجموعة الصغيرة من الهواة إلى الأسلوب الساخر فى نقد السياسة له مغزاه المهم. إذ كان بوسعهم أن يحققوا الانتشار وإن يصبحوا «نجوما» إذا سلكوا طريقا آخر لا يكلفهم شيئا. واختيارهم هذا الأسلوب يعبر عن متغير حاصل فى المجتمع وحيوية مازالت جذوتها مشتعلة بين الشباب. وبدلا من تفهم الحالة والتعامل معها بأسلوب واع ورصين، فإن الأجهزة الأمنية لجأت إلى قمع الشباب وتأديبهم. فتصرفت بحساسية واعتبرت أن أى انتقاد للرئيس حتى إذا جاء فى سياق فقرة ترويحية إساءة للدولة بأسرها. ليس عندى أى دفاع عن الإساءة إذا حدثت، وأزعم أن احترام مقام الرئاسة واجب كل مواطن، لكننى أفرق بين انتقاد الرئيس والإساءة إليه. إذ الانتقاد ينصب على السياسة ويتعامل مع المجال العام، فى حين أن الإساءة توجه نحو الشخص وتتعامل مع مجاله الخاص. والأول مباح ومطلوب لتصويب المسار وتوفير عناصر النجاح، والثانى محظور لأنه يخل بواجب الاحترام للشخص والرمز والمقام.

إننى أخشى من المبالغة فى الحساسية وضيق الصدر، حتى لا يشيع الانطباع بأن السلطة وأجهزتها الأمنية لا تنظر بعين الرضى والترحيب إلا للتأييد والتصفيق. وإن كل ما عدا ذلك صار من مواصفات أهل الشر المغضوب عليهم.

إن فى مصر جهات باتت تتفنن فى إسكات أصوات النقد بمختلف السبل، وسمعت فى هذا الصدد من بعض المحامين عن تهم مدهشة تسعى لفرض الإسكات باسم القانون. من ذلك مثلا اتهام من أعلن اعتراضه على إلحاق الجزيرتين بالمملكة السعودية بأنه: «استخدام القوة اللفظية لمنع الرئيس من أداء واجباته». ومصطلح القوة اللفظية بمثابة صياغة مبتكرة للإسكات. من ذلك أيضا توجيه تهمة «الجهر بالصياح» لمن هتف بما لا يرضى السلطة.

إن تضييق الخناق على صور التعبير حتى إذا كانت على سبيل السخرية والتهريج، يسىء إلى النظام بأكثر مما ينفعه، فضلا عن أنه يشيع حالة من الإحباط واليأس بين النشطاء الذين يفترض أن يكونوا فى طليعة المتفائلين بالمستقبل. وقد شعرت بالحزن حين قرأت لأحدهم مدونة قال فيها: ما هو العمل العام الذى يمكن أن يستشعر المرء فيه حريته واستقلاله، ولا تؤدى به ممارساته إلى السجن فى نهاية المطاف؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved