خواطر رمضانية فى فقه الاختلاف

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 13 مايو 2019 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

ما بال أحدهم يُعطى الكلمة فى المحافل والمؤتمرات، فيحرص كل الحرص على أن يؤكد للمستمعين أنه لا «يختلف» فى رأيه عن فلان، وأنه لا يقصد أن «يعارض» فلانا فى مسألة، بينما جوهر كلمته اختلاف ومعارضة لا عيب فيهما على الإطلاق! وعلى سبيل التندر بذم المغالاة فى الاختلاف والمسارعة إليه يقول أحدهم: «نحن مازلنا فى بسم الله الرحمن الرحيم» وعند هذا فاعلم أيها القارئ العزيز أن الأئمة والفقهاء والقراء قد اختلفوا «فعلا» فى «بسم الله الرحمن الرحيم» وتباينت آراؤهم الفقهية بين اعتبارها آية فى مستهل فاتحة الكتاب وسائر السور كما عند الشافعية، وبين ورودها على سبيل الفصل والتبرك فليست من القرآن فى شىء كما عند المالكية، ونشأ عن ذلك اختلاف فى الجهر والإسرار بالبسملة فى الصلاة المفروضة وسواها من النوافل والقراءة فى غير الصلاة.. والاختلاف هنا قد يراه البعض قد تجاوز موجبات الرحمة باتساع الخيارات والبدائل المذهبية، إلى حد الخلاف حول نص منزل لا لبس فيه، ولا مساحة لاجتهاد معه، لكن المؤكد أن الحرص على تحرى مرضاة الله، واقتفاء سنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام كان سببا فى نشأة هذا النوع من المسائل الفقهية، بل وفى نشأة وتطور علم الكلام عند العرب.

وقد سئل الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه عن معنى التقوى فعرفها بأنها: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. فلولا خوف أئمتنا أن يفرطوا فى حق الله، وحرصهم على فهم تنزيله والعمل به، لما اختلفوا حول تلك التفاصيل التى ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتيها ويتركها من باب التيسير والحض على نبذ الجمود، بل وربما من باب إثارة العقل للتفكير وتدبر آيات الله وتثبيت الكلمات والحروف فى الضمائر، فإن الفكرة تبقى إذا جاوزت اللسان إلى العقل والفؤاد.

***
لذا فقد عرف كل إمام فضل أستاذه وتلميذه وإن عارضاه فى عدد من المسائل، فقد التزموا جميعا أدب الاختلاف، وكان أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سرا ولا جهرا، وقال الليث بن سعد: «لقيت مالكا فى المدينة، فقلت له: إنى أراك تمسح العرق عن جبينك. قال عرقت مع أبى حنيفة، إنه لفقيه يا مصرى، قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له ما أحسن قول هذا الرجل فيك (يشير إلى مالك) فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام». ويقول الإمام الشافعى: «مالك بن أنس معلمى، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد آمن على من مالك بن أنس. وقال أيضا: إذا جاءك الحديث من مالك فشد به يديك، كان مالك بن أنس إذا شك فى الحديث طرحه كله».

ولأن القلوب والعقول أوعية لا يقَر فيها سائل المعرفة على وجه واحد، فقد أراد الله أن يسلك العباد إليه سبلا شتى، وأن يدخلوا عليه من أبواب متفرقة. فإن كنت ترجو الله على أية حال، فأعلم أنه لا ينظر إلى الأشياء من زاويتك المحدودة الضيقة، بل يتسع علمه وحلمه ليقبل كثيرا من الناس على اختلاف مذاهبهم وانحيازاتهم «وَلَوْ شَاءَ رَبُكَ لَجَعَلَ النَاسَ أُمَة وَاحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» فاختلاف الأمة الواحدة من سنن الله فى خلقه «ولن تجد لسنة الله تبديلا».

الأصل إذن هو الاختلاف، والاتفاق على الأصول هو ما جعلها أصولا وميزها عن الفروع، ولا يعاند سنن الاختلاف إلا هالك، ولنا فى مصائر الحركات الفاشية والنازية والفلانجية (الإسبانية) مثل فى هزيمة كل من يحاول أن يضع الناس فى قالب واحد، وأن يطمس ويبيد وجوه الاختلاف بين البشر مقوضا أسس بناء الأمم والحضارات قديمها وحديثها.

«من اتسع علمه قل إنكاره» ولا يسىء إلى المسلمين اليوم أكثر من أولئك الجامدين على أفكار لا تعرف سوى الرفض والإنكار بغية ما يحسبونه «توحيدا للصفوف»! هكذا يريدون للمسلمين أن يكونوا نسخة واحدة من نموذج نمطى لبعض تابعى الفكر الوهابى. نمط واحد فى الزى والشكل والمشية والجلسة والقراءة والحركات والسكنات... وكأنهم يعاندون خلق الله الذى جعل الناس شعوبا وقبائل «لتعارفوا» لا ليتحولوا إلى نسخة واحدة ودونها غير مقبول بل يستحق الإبادة! لا فرق إذن بين مذاهب الفاشية السياسية ومذاهب الفاشية العقائدية، كلها نبت بغيض كاره للحياة مقبل على الموت غالبا لتحقيق ملذات حسية فى حياة ما بعد النشور.

***
وزع الفاشيون صكوك الوطنية وحجبوها عن المعارضين الأحرار من أصحاب الرأى وأهل الشورى، ووزع المتطرفون فى مختلف الأديان صكوك الغفران وجنة الرضوان وحجبوها عن كل من سلك إلى الله طريقا ينكرونه. وليس على مواقع الإنترنت أبحاث وكتب ودراسات تنصف علم ولغة العرب أكثر من واحد فى الألف من فتاوى ومنتديات التحريم والمنع والرأى الواحد، بل وحروب المذاهب التى يأتون فيها كل ما حرم الله من سب ولعن وطعن، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!

لو ساد العلم وتحدث العلماء، وسكت الدهماء، ولم ينصت العامة إلى أنصاف المتعلمين، الذين امتلكوا فى عصرنا هذا أبواقا للتشويش على ما ينفع الناس، وجرح أقوال أصحاب الرأى من السلف والخلف، لا تسعت عقول العباد وقلوبهم للقول ونقيضه، وعلموا علم يقين أن الله يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه وحده الحق الذى «لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء». لو ساد العلم وتحدث العلماء، لانشغل المسلمون بأمور مهمة وتركوا السفاسف والموضوع من الأحاديث والإسرائيليات التى قصد بها الإلهاء والتغييب، بل وأحيانا السخرية من جهلاء الأمة. لانشغلوا بتنظيم معايشهم، والاستعداد إلى لقاء ربهم بأعمال صالحات، وفهم وتدبر لآيات الله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved