ظاهرة انقلاب الأحلام الكبرى إلى كوابيس

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 13 مايو 2020 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

يبدو، فى حاضر وماضى بلاد العرب، البعيد كما القريب، أن الأحلام الكبيرة تنتهى دوما فى يد من يحرثون البحر، لا زرع ينمو ولا حصاد يقطف، إنها ظاهرة تبدو من كثرة تكرارها عبر القرون من الأزمنة بأنها أصبحت جزءا من الكينونة الحضارية العربية وعادة تمارس بلا كابح، لنذكر أنفسنا ببعض الأمثلة:
بعد فترة وجيزة من موت رسول الإسلام تدخل المجتمعات الإسلامية فى مجادلات مرجعية قراءة وفهم وتطبيق النصوص الأصلية المؤسسة المقدسة، أى القرآن الكريم والأحاديث النبوية، هل الفهم يجب أن يكون من خلال ما قاله وأكده السلف الصالح، وما نقل عن أصحاب رسول الله على الأخص، أم يضاف إلى ذلك الاحتكام إلى العقل والمنطق الإنسانى، تمثلت تلك النقلة فى ظهور مدرسة المعتزلة التى طرحت للنقاش قضايا وتساؤلات كثيرة من مثل الترابط بين حرية الإنسان ومسئولياته أمام خالقه، ومواضيع العدالة والأخلاق كما يضبطهما العقل الإنسانى.
لكن المدرسة المعتزلية تاهت أولا وأثقلت حملها بالدخول فى مناظرات كلامية وفلسفية معقدة، ثم قادها بعض أتباعها وبعض رجالات السلطة إلى متاهات السياسة وأحابيلها، فكانت النتيجة أن ضاعت على العرب والمسلمين فرصة تاريخية بالغة الوعد والأهمية لتأسيس حضارة ترتكز على ممارسة عقلانية قابلة للتجديد والتطوير المستمرين للثقافة والسلوك واقتحام مجاهل العلوم، لم يكن ذلك سقوط مدرسة، بل كان بدء سقوط حضارة فى دياجير الجهل والخرافات والقراءات السطحية.
مثلما حدث لإمكانيات التقدم فى المدرسة المعتزلة وحلول بعض المدارس الفقهية المليئة بالانغلاق ورفض الاجتهاد والمعاداة للمنطق الفلسفى مكانها، حدث لمدرسة الإصلاح الدينى الإسلامى التى نشأت وقويت، وكانت مليئة بالإمكانيات التجديدية، عبر أكثر من قرن من الزمن، من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين. يكفى أن نذكر أسماء من مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغانى والكواكبى ومحمد رشيد رضا وعلى عبدالرزاق وعبدالحميد بن باديس وعلال الفاسى ومحمود شلتوت حتى نعرف حجم وتنوع وغزارة تلك النهضة الإصلاحية. لكن، وكالعادة، ضعفت تلك الحركة الإصلاحية الواعدة ودبت الخلافات فيما بين أركانها، وفشلت فى تأصيل وتجذير فكرها الإصلاحى التجديدى فى المجتمعات العربية والإسلامية. فكانت إحدى نتائج ذلك الإخفاق قيام مدارس فقهية جامدة وشديدة المعاداة لعصرها، ولتنتهى بصعود ظاهرة الجنون التكفيرى الاجتهادى العنفى الذى يتمثل اليوم فى حراكات من مثل القاعدة وداعش والنصرة وعشرات غيرها. مرة أخرى سقطت حركة عقلانية إصلاحية لتحل محلها بربرية همجية. هل الأسباب العميقة لهذا الإخفاق الحديث تختلف عن أسباب الإخفاق للمدرسة الاعتزالية العقلانية القديمة؟
دعنا ننتقل من أحلام الإصلاحات الدينية الكبرى إلى أحلام التغيرات الكبرى فى حقل السياسة.
يتحد القطر المصرى مع القطر السورى فى أعظم وأهم خطوة وحدوية عربية عرفها القرن العشرين، مما أوقد الوعى الوحدوى لدى الملايين من المواطنين العرب الذين امتلأت نفوسهم بالأمل فى قيام دولة عربية مترامية الأطراف، تقود إلى نهوض حضارى هائل وخروج من تخلف تاريخى مخجل. فجأة انفتحت أبواب المستقبل الواعد، وفجأة انقلب ذلك الحلم الرائع إلى كابوس محبط، وضاعت فرصة تاريخية أخرى.
وانطبق الأمر نفسه على حلم كبير بشأن إمكانية وحدة أخرى فيما بين سوريا والعراق عندما حكم القطرين حزب واحد، حزب البعث العربى. وكان منطقيا أن تستطيع قيادة قومية واحدة لذلك الحزب فرض قيام وحدة فيما بين القطرين. ولكن وكالعادة، تبين أن الحديث عن المنطق فى بلاد العرب هو من قبيل الهذر، وضاعت فرصة تاريخية أخرى.
وآخر مثل هو محاولة تقريب وتفاهم قوى التيار القومى العربى مع قوى التيار الإسلامى السياسى المعتدل. لقد عقد فى عام 1994 مؤتمر مشترك فيما بين ممثلين عن التيارين لوضع أسس لتفاهم يتفق على أهداف أساسية كبرى للأمة العربية، ويسعى لتكوين كتلة تاريخية نضالية لتحقيق تلك الأهداف. وكانت النفوس مليئة بالأمل فى الخروج من الصراعات والمماحكات القديمة وبدء العمل السياسى المشترك لإخراج الأمة من محنها وضعفها. لكن، ومرة أخرى، جاءت رياح وخلافات وصراعات وانتكاسات الربيع العربى، وتكالب قوى الخارج الاستعمارية بالتعاون مع قوى الاستبداد الداخلية، لتئد تلك المحاولة ولينقلب ذلك الحلم إلى كابوس تعيشه المجتمعات المدنية السياسية إلى يومنا هذا.
لا يمكن للإنسان المعنى بمصير هذه الأمة والملتزم بالنضال من أجل نهوضها إلا أن يسأل: أين الخلل المسبب للسقوط المفجع لمثل تلك المحاولات التى ذكرنا والتى لم نذكر.
لا يكفى أن نوجه أصابع الاتهام إلى تآمر الخارج الاستعمارى والصهيونى، ولا إلى الفساد والاستبداد الداخلى. هذا قد يفسر بعض ما حدث، ولكنه لا يفسر كل ما حدث ولا يفسر ما يحدث اليوم من مواجهة الجحيم العربى بالعجز والانقسامات العبثية البليدة والتراجع عن كل الالتزامات القومية العربية المشتركة.
لعل فى أعماق عدم القدرة على التعايش مع الحدود الدنيا من العقلانية والقدرة العجيبة على التعايش مع السلوكيات والقيم الأخلاقية المشوهة تكمن بعض الأجوبة، وإنها لأجوبة كارثية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved