لِبس العيد

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 13 مايو 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

في السنوات الأولى من عمري كان مشوار شراء لِبس العيد يمثل لي متعة حقيقية. أبيت ليلتي وأنا أحلم بطقم جديد أشتريه من أحد محلات وسط البلد التي ربطتني أمي بها بحكاياتها الجميلة عنها وعن الخياطة إيڤون التي كانت تتردد عليها لشراء جهازها وهي عروس، ورغم أن إيڤون كانت قد غادرت القاهرة وذهبت إلى فرنسا في مطلع الستينيات، إلا أنه ما من مرة كنّا نمر بالعمارة التي كانت تسكنها إلا وتقول أمي: هنا كانت تسكن إيڤون. ظللتُ فترة طويلة أستمع إلى هذه الجملة المتكررة التي لم أكن متأكدة تمامًا من أن أمي نست أنها قالتها لي كثيرًا من قبل، وفي الغالب لم تكن أمي قد نستها لكنها كانت تحب أن تتذكر إيڤون وأن ترد لها بعض الجميل وتستفيض في الحديث عن ذوقها الرفيع ومهارتها التي كانت تُحوّل أي موديل في مجلات الموضة إلى فستان بديع على جسد أمي. لم يمنع ذلك من أنني أحيانًا كنت أداعب أمي فإذا بي أفلت يدي من يدها وأشير لأعلى عمارة إيڤون قائلة: تعرفي حضرتك مين كان ساكن هنا؟ وقبل أن ترد أعاجلها بالقول: إنها إيڤون الخياطة. كانت التمشية متعة، والفرجة على الڤاترينات متعة، والشراء متعة، وكان المشوار الواحد لشراء لِبس العيد أحيانًا يتحول إلى عدة مشاوير، وذلك عندما كان الذوق المتاح يبدو غير مناسب، أو الفستان ليس به طول كاف بما يسمح بارتدائه من العيد للعيد خصوصًا ونحن عائلة كما يقولون: زرع بدري، بمعنى أن أفرادها يكبرون بسرعة وربما قبل الأوان. وظلت هذه المتعة تلازمني حتى طرأ على حياتنا تطور جديد.

***

كنتُ في نحو الثامنة من عمري عندما تعرّف والدي على تاجر كبير للأقمشة في حي باب اللوق، كان محله فاخرًا من دورين وكان مكّدسًا بأقمشة الجبردين والكتّان والصوف التي تصلح أكثر لتفصيل ملابس الرجال، وبالتالي فإن ألوانها عادة كانت محايدة: درجات الرمادي والأبيض والكحلي والأسود... إلخ. بسرعة توطّدت علاقة أبي بالتاجر المحترم وصار أنكل فلان، ثم تداخلت علاقة الصداقة مع علاقة نسب بعيد جعلت زيتنا في دقيقنا. لم تستفزني هذه العلاقة في بدايتها، بالعكس فعندما كان يصحبني أبي إلى هناك ليشتري قماش العيد لأخوّي، كنت أتركهم يتفاهمون وأتسلى أنا بالفُرجة على الرائح والغادي أمام المحل وأنا أرتشف السينالكو أو السيكو أفندي، وفي بعض الأحيان كان يعزم علي أنكل فلان بقطع الحلوى المقفول عليها في درج مكتبه الأنيق مع النقود والإيصالات ومفاتيح المحل، وكان هذا شيئا لطيفًا على أي حال. لكن في لحظة معينة لا أستطيع تحديد ملابساتها بالضبط قرر والدي- ربما من باب توفير المشاوير- أن يكون اختيار قماش لِبس العيد لثلاثتنا من نفس ذات المحل. يصحبنا والدي إلى محل باب اللوق ويبدأ العمال في عرض الأقمشة علينا باهتمام شديد للاختيار منها ما يناسبنا، أختار ماذا بالضبط؟ أصلًا لا يوجد مجال للاختيار، كل الأقمشة يشبه بعضها البعض ولا يروقني أي منها، وهي لا تتغير من عيد لآخر ولا حتى من عام للثاني. وكله كوم ومسألة الأقمشة الكتّان المخططة خطوطًا رفيعة بالطول أو بالعرض كوم آخر تمامًاااا. لا أريد أن أدخل في هذه الأقمشة لا بالطول ولا بالعرض ولا أن تكون لي بها أي صلة، أنا أريد فساتين جاهزة كتلك التي كنت أشتريها مع أمي، أو على الأقل أقمشة تطير فوقها فراشات وتتفتح في نسيجها زهور وتلعب فوقها حيوانات أليفة ظريفة كتلك الأقمشة التي تزغلل نظري في محلات وسط البلد، هذه الأقمشة المفرحة يمكن أن تصنع لي منها أم إبراهيم- وهي الخياطة المنزلية الأسوانية التي دخلت حياتنا بعد إيڤون- ثيابًا رائعة أحبها وتناسبني.

***

فشَلَت كل محاولاتي في إقناع أبي باختيار لِبس العيد من أي مكان آخر، وجاءت فوق رأسي كلمة "اشمعنى" التي كررتها كثيرًا على مسامع أبي عشرات المرات احتجاجًا على عدم المساواة بيني وبين أخوّي لأنهما يخرجان براحتهما دون قيود مع أنه لا وجه للمقارنة أصلًا بين الأمرين، فما شأن المساواة في الحريات العامة التي كنتُ أطلبها بالمساواة في قماش لِبس العيد؟. أصبح هذا المشوار الذي أذهب إليه مرتين في العام ثقيلًا على قلبي وخاليًا من البهجة، وبأمانة حاولتُ التأقلم مع هذا الوضع الجديد بالقول إني أصبحت مثل كبار زعماء العالم عبد الناصر ونهرو وسوكارنو فأنا أرتدي نفس الأقمشة التي يصنعون منها بِدلهم ويظهرون بها في التلڤزيون، لكن فشَلَت محاولتي في إغراء نفسي بتقليد هؤلاء الزعماء فطفلة الثامنة لا تهتم بالزعامة، كذلك فشَلَت محاولتي في استخدام الأسلوب البديل مع نفسي والتلويح لها بالعصا بدلًا من الجزرة وإجابة سؤال: من أكون أنا وما هو وضعي بالضبط في الهيئة الاجتماعية حتى أتبطر على ملابس قادة وزعماء حركة عدم الانحياز؟. استمر الأمر على هذا النحو إذن بلا أي بهجة مع لِبس العيد الرجالي السخيف، لكن عندما أصبح محل باب اللوق هو المحل المعتمد لكسوة الشتاء والصيف وليس فقط لِبس العيد بلغ السيل الزبي.. قدتُ حركة تمرد عارمة لكن لم أجنِ ثمارها فورًا، فقط حدث ذلك عندما ظهرت نتيجتي الدراسية في أحد الأعوام وكانت مبهرة فكوفئت بإعطائي حرية اختيار لِبس العيد من أي مكان شئت، ياسلااااام.. بمفهوم المخالفة فإن هذا يعني أن الشراء من المحل إياه كان يمثّل نوعًا من العقاب! 

***

تمر السنوات وأنتبه جيدًا إلى الحفيدات وهن يرفضن رفضًا باتًا تدخّل الكبار فيما يلبسنه سواء في العيد أو في غير العيد، حتى هذه المفعوصة التي خرجت بالكاد من البيضة لا يجرؤ أحد على اختيار لِبسها في غير وجودها ولابد أن تكون واقفة زنهار عند عمل أي طَلَبية لِبس يخصها عن طريق الأونلاين، فإذا هي تشير بإصبعها الذي هو مثل الدودة بأن هذا يعجبها وذاك لا. أضحك بيني وبين نفسي وأنا أتخيل ما كان يمكن أن يكون عليه موقف أبوّي من لِبس القماش الممّوه والممزّق والمُرقّع والمذهّب الذي ترتديه الحفيدات، لكن لا، لا ينبغي أن أستحضر ردود فعل أبوّي وأتحراها في القرن الواحد والعشرين فكل عصر له أوانه، وإذا كنّا نبدو أكثر ديمقراطية بكثير مع أولادنا وأحفادنا من أهلنا معنا فهذا يرجع لأن العالم اختلف ومعه اختلفت المفاهيم والاتجاهات والأذواق، ولو نظرنا إلى أزياء زعماء العالم الآن سنجد أنها صارت أبسط وأروش بكثير. انقضى زمن التشابه بين الجميع وذهب إلى غير رجعة مبدأ: مقاس واحد يناسب الجميع one size fits all، بل أصبح المقاس الواحد به درجات وأطوال تناسب الأطوال والأحجام المختلفة، وصار الصغار يعتصرون بهجة العيد حتى الثمالة وهم يختارون ملابسهم بأنفسهم، فمن المؤكد أن أحد أسرار هذه البهجة القُراح يكمن في مبدأ حرية الاختيار، فالاختيار الحر يبرز الفرق ويعكس طبيعة الشخصية ويعبر عن الذات، أما الإجبار في اللِبس كما في كل الأمور فإنه ينزع من الأشياء روحها وبهجتها ويحول الناس إلى نسخ مكررة شكلها واحد وإن كانت طبائعها شتى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved