«بلا مثقفين بلا كلام فارغ».. اعتقلوه!

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الأربعاء 13 يونيو 2018 - 11:09 م بتوقيت القاهرة

ذات مساء من صيف 1962 لم يكن الشيخ إمام ينتظر ضيوفا. لكن الرجل الذى سيطرق الباب بعد قليل سيكون رفيق الشيخ فى رحلة لا تنساها الأجيال المتعاقبة، المتعطشة للتغيير والثورة والتمرد.
الضيف هو أحمد فؤاد نجم، زجال «رد سجون»، أمضى هناك 3 سنوات عقابا على التزوير واختلاس الأموال الأميرية.
بدأ الثنائى إمام ــ نجم يجوبان الأفراح وحفلات الختان، وجلسات المزاج. لم يكن نجم قد كتب كلمة واحدة فى السياسة، ولم يكن الشيخ قد اهتم بما يجرى هناك، فى القصور التى تحكمنا وتتحكم بمصائرنا، حتى وقع الزلزال.
حلت الهزيمة التى ابتكر لها إعلام عبدالناصر اسم النكسة.
فى عام 2006 حكى لى الشاعر الراحل أن الشرارة الأولى ضربت نافوخه يوم تنحى عبدالناصر. «مشيت يومها على قدمى من ميدان التحرير للعتبة إلى بيتنا فى خوش قدم، دمى يغلى، مش طالع على لسانى غير كلام بقرة حاحا».
يمكن للسجين السابق أن يواصل تمرده، لكن الشيخ فى تلك اللحظة الرهيبة كان المغنى الضرير الصعلوك، قارئ القرآن، والمؤذن والمنشد فى حلقات الذكر.
الأهم من ذلك أنه كان فى فى التاسعة والأربعين من عمره.
لكنه اتخذ القرار الرهيب دون تردد.
كانت «بقرة حاحا» هى البيان رقم واحد فى تمرد إمام ونجم. كانت افتتاحية عمل سيمفونى ثورى سوف يستمر نحو 15 عاما بتنوع مذهل، حتى يصبح أيقونة لغناء الثورة والتغيير فى العالم العربى.
وصل عبدالناصر تقرير بأن نجم وإمام يروجان أفكارا مناهضة للحكم، فاستدعى وزير داخليته شعراوى جمعة. تحجج الوزير بأن اعتقالهما سيغضب المثقفين، ورد الزعيم الخالد بالشعار الخالد: بلا مثقفين بلا كلام فارغ، اعتقلوهم، كما حكى صلاح عيسى.
تم إيداع الثنائى السجن، ولم يصدر شيء عن المثقفين فى ظل قبضة ناصر الحديدية، «بلا مثقفين بلا بتاع». عندما خرج الشيخ إمام من التجربة الأولى كان فى الرابعة والخمسين، لكن أكثر عنفوانا وقوة. وفى كل مرة يعودان للسجن كان الثنائى يواصل كتابة الأغانى وتلحينها، هل هناك «استبياع» أكثر من هذا؟
ولم تعد معركة الثنائى مع رأس النظام وقتها. تحول المشروع إلى ماكينة هدم تضرب فى أركان المجتمع الراكد. انطلقت المدفعية الثقيلة من خوش قدم لتدك الزمالك وجاردن سيتى ووسط البلد، حيث الرموز المقربة للنظام.
قصفت أغنيات الثنائى مقهى ريش قرب التحرير، حيث يعيش المثقف «محفلط مزفلط كتير الكلام».
لم تكن انتفاضة الشيخ السياسية فى 1967 غريبة على شخصيته، فهو متمرد قديم. لكن الغريب هو فداحة الثمن المحتمل هذه المرة.
سبق أن تمرد حين كان يدرس بمعاهد الجمعية الشرعية، وطردوه. وكان أحد السنيدة فى تخت زكريا أحمد، لكنه سرب لحن أغنية الأمل فى مجالس الأنس، وانتهك قاعدة الكتمان.
ثم إن وحدته المطلقة وليدة تمرد عائلى ضد الأب فى مرحلة الصبا، وضد فكرة الزواج بعد تجربة استمرت شهرا واحدا. فأمضى حياته رهين محابس اختيارية، ثمنا للتمرد.
سألته روز اليوسف عن الفرق بينه وبين سيد مكاوى، فأجاب: «سيد مكاوى اختار طريق الفخفخة وأنا اخترت طريق النضال». قالها وهو يعيش فى شقة خوش قدم ذات الغرفة الواحدة، بكنبتين ومقعد بثلاثة قوائم ورف ومرآة مكسورة.
لكنه المغنى الضرير الذى حانت ذكرى رحيله هذا الأسبوع.. كان يرى الشمس التى غابت عن معظم المبصرين.
محمد موسى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved