حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة.. إشكالية العمل العربى المشترك

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 13 يونيو 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

فى مواجهة التحديات والعقبات التى تمنع انطلاق مرحلة إيجابية جديدة فى العمل العربى المشترك، دعت «الشروق» عددا من الكتاب والمفكرين والمتخصصين العرب لإجراء حوار بشأن الشروط التى يجب توافرها فى دولة أو ائتلاف عربى يتولى مهام القيادة فى النظام العربى ويتغلب على هذه التحديات. وكان أول من استجاب لدعوتنا المفكر العربى الكبير ووزير التربية والتعليم الأسبق فى دولة البحرين الدكتور على فخرو. وبطبيعة الحال فإن الآراء المنشورة فى سلسلة مقالات «حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة» تعبر عن أصحابها فقط وليس عن وجهة نظر «الشروق».
الأسف عام على حالة الفرقة التى تردى إليها العرب. بدلا من أن يحسنوا استخدام مواردهم ويتقدموا، أمسك التخلف بتلابيبهم وتضاعفت مشاكلهم وتعددت. فيما عدا الشكليات لرفع العتب، غاب العمل العربى المشترك. البحث فى أسباب ذلك يحتمل مقاربات مختلفة. التعرف على الجوانب المتعددة لإشكالية هذا العمل المشترك ثم التصدى لها هما السبيل لتشييد بناء يجدى فى حل مشكلات العرب وفى تنميتهم ورفع مستويات معيشتهم فى الدول التى يعيشون فيها.
الفكر القومى العربى، وهو فكر أخلاقى لا شك فى ذلك، اعتبر أن الوحدة العربية هى الشكل الشرعى الوحيد للعمل العربى وأن ما عداها قاصر وليس مقبولا إلا كتحضير لها. لذلك يبدأ هذا المقال بتحليل نقدى لبعض جوانب الفكر القومى فى تصديه للعمل العربى ثم ينتقل إلى استعراض منهج بديل مقترح للعمل العربى المشترك وما يثيره بدوره من مسائل تحتاج للتدبر.
***
أول ما يثور فى تحليل الإشكالية هو العلاقة فى الفكر القومى العربى بين مفهوم «الأمة العربية»، التى لا يوصف بالقومى إلا ما يتصل بها، من جانب، وبين ما أطلق عليه «الدول القطرية»، من جانب آخر. فى العالم المعاصر الذى نعيش فيه الدولة ذات الحدود والإقليم، التى تنشىءجنسية ولها علم وسلام موسيقى، وتشغل مقعدا فى المنظمات الدولية والإقليمية هى «دولة قومية» ذات سيادة، والسيادة معناها اختصاص الدولة بسن قوانينها وتطبيقها فى إقليمها بغير قيد عليها غير ما يفرضه القانون الدولى. هل الدول العربية دول قومية ذات سيادة على أقاليمها أم هى دول قطرية ذات سيادة محدودة، تعلوها سيادة قومية تنعقد للأمة العربية وحدها وتستجيب لمصالحها العليا؟ من الذى يحدد هذه المصالح العليا وقد أصبح للدول العربية مصالحها القومية؟ باعتباره الدول العربية دولا قطرية ذات سيادة غير مكتملة، أنكر الفكر القومى على هذه الدول جزءا من شرعيتها، وهو فعل ذلك صراحة أو ضمنيا دون أن ينجح لا فى حمل الدول العربية على قبول ذلك ولا فى إيجاد سبيل لكى تتفق الدول العربية على مصالحها العليا المشتركة التى تجب المصالح الخاصة بكل منها. هذا التوتر بين «الدول القطرية»، من جانب، والأمة العربية، من جانب آخر، سبب جوهرى فى فشل العمل العربى المشترك، دعك من عدم الاتفاق أصلا على مفهوم الأمة العربية، فهل هو نفسه، قل عند الشريف حسين، وعند ميشيل عفلق، وعند جمال عبدالناصر، وعند محمد عابد الجابرى؟
كانت نتيجة التوتر بين «الأمة» و«الدول» أنه لا نجحت الأولى، أيا كان تعريفها، فى تحقيق مصالحها العليا ولا أفلحت الثانية فى بناء كيانات وطنية متماسكة ومتطورة ولنا شواهد على ذلك فى قلب «الأمة» فى سوريا، ولبنان، والعراق. بدلا من كيانات متماسكة انفصمت المجتمعات فى هذه الدول إلى مكوناتها الدينية والطائفية والعرقية. أما فلسطين فلم يفلح العرب المتأرجحون بين الأمة والدول فى حماية قضيتها المهددة بالزوال.
لم يتمعن الفكر القومى فى جوانب أساسية فى هذا التوتر وكانت النتيجة إزاحة التراب وإخفاءه تحت السجاجيد كما يقولون. خذ فكرة «الأمن القومى العربى». مفهوم الأمن القومى هو مفهوم يتعلق بأمن كل دولة قومية ومن هنا صفة القومى. هو لا ينطبق على أمن مجموعة من الدول ولذلك فأنت لا تسمع عن الأمن القومى الإفريقى أو الأمن القومى الأوروبى أو الأمن القومى الأمريكى اللاتينى. صحيح أن ما يجمع العرب والمشترك بينهم أكثر مما يجمع غيرهم ويشتركون فيه فى مناطق العالم المختلفة. ولكنهم مع ذلك ينتظمون فى دول. لم تنجح هذه الدول كما ذكرنا أعلاه. ومع ذلك فهى لم تفشل تمام الفشل. فى اجتماع البشر لا يوجد شىء ينجح تماما أو يفشل كليا. العراقيون ما زالوا متمسكين بالعراق والأردنيون بالأردن والسوريون بسوريا، واللبنانيون بلبنان. ونفس التمسك بدولهم تجده لدى الإماراتيين بالإمارات، والقطريين بقطر، والسعوديين بالسعودية. كيف توفق بين الأمن القومى لكل دولة عربية وبين «الأمن القومى العربى»، وبين المصلحة القومية لكل دولة و«المصالح القومية العربية»؟ ومن ذا الذى يعرف «الأمن القومى العربى» ويحدده؟ هل هذا «الأمن القومى العربى» هو نفسه منظور إليه من موريتانيا، المتاخمة للسنغال ومالى، ومن العراق؟ هل «الأمن القومى العربى» منظور إليه من المغرب شبه المتاخمة لإسبانيا والتى تعتبر الصحراء الغربية مشكلة جوهرية لها هو نفسه «الأمن القومى العربى» بالنسبة لعمان ذات التاريخ الطويل فى شرق إفريقيا وفى المحيط الهندى؟ اختيارنا هنا أن نبتعد عما هو بديهى مثل القضية الفلسطينية التى اجتمع حولها العرب لعقود طويلة، ولكن حتى القضية الفلسطينية هل تستوى أهميتها تماما بالنسبة للأردن أو لمصر، اللتين يمس النزاع العربى الإسرائيلى الأمن القومى لكل منهما كدولتين بشكل مباشر وبالنسبة لليمن أو الصومال؟
والعمل العربى المشترك تأثر سلبيا أيضا بعدم اهتمام الفكر القومى بأن عددا من الدول العربية ليست كذلك تماما إلا مجازا، لأن فيها مواطنين لا هم عرب عرقيا ولا لسانهم عربى. أمثلة على ذلك الأكراد فى العراق وفى سوريا، والأمازيغ فى الجزائر وفى المغرب وغيرهما. وزادت المشكلة تعقيدا عندما عمد البعض وبشكل متزايد إلى تطعيم العروبة بالدين، على الرغم من غرابة ذلك على الفكر القومى العربى الأصيل، وهو ما جعل بعض العرب يشعرون بالغربة فيه وهم من كانوا فى أصل نشأته!
***
الاكتفاء بالعمل العربى المشترك والامتناع عن الدعوة إلى الوحدة العربية، أيا كان جمال فكرتها، هو إقرار بالواقع من أجل تحويره وتخطيه. البديلان للوحدة والفكر القومى هما التكامل والمنهج الوظيفى. فى هذا التكامل سبيل للعمل العربى المشترك وفرصة هائلة لتقدم شعوب الدول العربية بكل مكوناتها أيا كانت أديانها وطوائفها، أو أصولها العرقية. والعمل العربى المشترك المستند إلى التكامل الوظيفى المتصاعد، ومتسع الدوائر، ليس أقل أخلاقية من الفكر القومى الداعى إلى الوحدة الاندماجية الفورية، ومن يشك فى ذلك يمكن أن يرجع إلى موقف جمال عبدالناصر نفسه من فكرة الوحدة المصرية السورية عندما بدأت مناقشتها جديا لدى نهاية سنة 1957.
ولكن لا يكفى القول بأن العمل العربى المشترك الذى ندعو إليه سيتخذ شكل التكامل الوظيفى. لا يمكن النقل الحرفى من تجارب الآخرين كالأوربيين مثلا وهم من ابتكروا التكامل الوظيفى والأكثر نجاحا فيه لأن مجموعات الدول تختلف فى تواريخ كل منها وفى ثقافاتها السياسية وفى بناياتها الاقتصادية. فى التجربة الأوروبية إنشاء اتحاد جمركى بفرض سياج جمركى واحد حول الدول الأعضاء واتخاذ سياسة تجارية مشتركة فيما كان عندئذ الجماعة الاقتصادية الأوروبية كانا أول خطوتين فى عملية التكامل فيها. هذا سبيل لا يعول عليه فى الدول النامية ومن بينها الدول العربية حيث يقل التنوع فى اقتصاداتها وينتج الكثير منها سلعا زراعية متشابهة. قد تكون سياسات موحدة فى الإنتاج ومن بعده الاشتراك فى جنى ثمارها سبيلا للعمل المشترك فى قطاعات محددة كالطاقة الجديدة والمتجددة والمياه مثلا.
***
مسائل عديدة لا بد أن يتفكر فيها الداعون إلى التكامل الوظيفى المستدام، نختار منها هنا خلق الحوافز للمشاركة فى هذا التكامل، والتضامن المالى بين أعضائه، وعملية اتخاذ القرار فيه. خلق الحوافز لكى تجتذب الدول العربية إلى التكامل وتعمل على إنجاحه جوهريا. الإرادة السياسية لا تسقط من السماء ولا هى سمة «لزعماء خيرين» وإنما هى تنشأ استجابة لحوافز تمنح للدول وتحقق مصالحها. أى مصلحة للدول العربية المصدرة للنفط، قليلة المواطنين، مثلا فى أن تكفل حرية الدخول إلى أقاليمها وأن تفتح أسواق عملها الصغيرة أمام ملايين العمال المصريين والسودانيين وأن تعاملهم على قدم المساواة مع مواطنيها؟ ما هى الحوافز التى يمكن أن تمنح لهذه الدول لكى تفعل ذلك؟ سوق العمل الواحدة حجر أساس فى التكامل الأوروبى، ونجحت فى التقدم نحو تحقيقه الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وجماعة شرق إفريقيا، والسوق المشتركة للجنوب (مركوسور) فى جنوب أمريكا الجنوبية.
والتضامن المالى أو المساعدات المالية للدول أو المناطق الفقيرة فى التكامل الوظيفى ليست منحا ثنائية تمنحها الدول الأغنى وتكون أدوات فى سياساتها الخارجية. فى الاتحاد الأوروبى هذه المساعدات تصدر من ميزانيته التى تتشكل إيراداتها أساسا من حصيلة الضريبة الجمركية الموحدة، وحصيلة واحد من عشرة فى المائة من الضريبة على القيمة المضافة فى كل الدول الأعضاء، واشتراكات هذه الدول، وهى إيرادات ينفق منها على كل السياسات المشتركة. هل يمكن التفكير فى ميزانية وفى آلية تمويل شبيهة فى العمل العربى المشترك؟
إنشاء عملية موحدة لاتخاذ القرار فى شأن المجالات المندرجة فى إطار التكامل هو جوهر التكامل الوظيفى. كيف يمكن بناء مثل هذه العملية التى تأخذ فى اعتبارها الوزن النسبى للدول حتى تكون حافزا لها على المشاركة فى التكامل؟ مع وجود استثناءات، يذكر كنموذج أن القرار فى الاتحاد الأوروبى يتخذ بما يسمى الأغلبية المزدوجة، بمعنى أن القرار ليعتمد فى مجلس الوزراء يجب أن تصوت له 55 فى المائة من الدول الأعضاء يمثل سكانها 65 فى المائة من مجموع سكان الاتحاد. هذه الأغلبية المزدوجة تعنى أن أصوات الدول كلها ليست على قدم المساواة. كيف يمكن أن تقبل الدول العربية ذلك وهل يمكن أن يكون حجم السكان معيار التمييز فى حساب الأصوات فى وقت حجم المواطنين فيه صغير جدا فى أكثر الدول العربية ثراء؟
ما جاء فى الفقرات الأخيرة مجرد أمثلة على المسائل التى ينبغى للفكر العربى المنشغل ببناء تكامل عربى مستدام ومتزايد الاتساع والعمق أن يتدبر فيها. العمل العربى المشترك عمل جماعى تأثير الدول الأطراف فيه سيتناسب طرديا مع ما تشارك به كل منها من بنى اقتصادية متنوعة، وموارد بشرية من حيث الحجم والنوعية، وأفكار وثقافات متفتحة، وعلاقات دولية متشعبة وعميقة الجذور فى التاريخ. وهذا العمل العربى المشترك لا بد أن يكون تعدديا ليعكس التعدد الموجود فعلا فى المنطقة العربية والذى أدت المحاولات المستمرة لكبته إلى الفرقة، وإلى التخلف عن ركب التقدم، وإلى انهيار بعض الدول العربية. وهو عمل منفتح بثقة على العالم.
بناء العمل العربى المشترك عملية مضنية ولكن ثمارها على المديين المتوسط والبعيد تستحق العناء.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved