قابلية مصر لأن تحكم مهددة تهديدًا خطيرًا

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 14 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أما الحكم فهو سن القونين واتخاذ القرارات، وإنفاذها بفاعلية وكفاءة، تحقيقا للصالح العام. والنظم السياسية تقوم أساسا لتأمين حكم الجماعات الإنسانية تحقيقا لصالحها العام، فإن استحال هذا الحكم وغاب، ضاع الصالح العام، وتهدد نسيج المجتمع، وتعرض كل من تكامله ووحدته للتحلل. مصر، وللأسف معرضة فى الوقت الحالى لهذا المصير البائس، والأمثلة على أزمة الحكم فيها عديدة على كل المستويات. على مستوى السياسة الإقتصادية، القرارات الحاسمة المؤثرة فى التوازنات الاقتصادية مؤجلة، ولا تبدو ثمة همة على اتخاذها. نتيجة لتباطؤ النشاط الإقتصادى ولهبوط إيرادات السياحة، انخفض الدخل من النقد الأجنبى، وهو ما أدى بالحكومة إلى السحب من الاحتياطى الموجود فى البنك المركزى وانكماش هذا الاحتياطى بشكل مطرد. ولا تبطل آخر الأرقام التى نشرتها الحكومة عن زيادة طفيفة فى احتياطى العملة الأجنبية فى الشهور الثلاثة الأخيرة من سلامة هذا التحليل على المدى الطويل. لا الحكومة ولا غيرها من أطراف عملية اتخاذ القرار راغب أو قادر على إعادة هيكلة الإنفاق العام، من أجل إدخال تخفيض انتقائى على دعم الطاقة ودعم الإنتاج مثلا، أو على الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، أو على كليهما معا. هذا غياب فى الحكم، وتعريض لأى حكومة قادمة لمواجهة مشكلة كبرى تترتب عليها هزات عنيفة للاقتصاد وللمجتمع.     

 

وفى غيبة القرارات المنفذة بفاعلية وكفاءة والتى تحقق الصالح العام، قطع الناس هنا وهناك الطرق، وتقاتلت القبائل وتحاربت المدن، فى الصعيد وفى الدلتا، كل يدافع عن مصلحته الخاصة، سواء تعلقت هذه المصلحة بتحقيق أمن، أو بصيانة زراعة، أو بتوفير طاقة. وإن كان الاتفاق منعقدا على أن ثورة 2011 قامت لأسباب إقتصادية واجتماعية، بالإضافة إلى الأسباب السياسية، فإن غيبة المعالجة الكلية لهذه الأسباب الإقتصادية والاجتماعية، والاكتفاء، فى أحسن الأحوال، بمعالجة كل حالة على حدة أدى إلى تفجر المطالبات فى شكل الإضرابات والاعتصامات فى وحدات الإنتاج فى القطاع الخاص، بل وفى الدوائر الحكومية ذاتها. المسئولية الأساسية عن ذلك تكمن فى غيبة الحكم بمعنى اتخاذ القرارات وتنفيذها، القرارات التى تحفظ السلم الإجتماعى وتكفل دوران عملية الإنتاج. وفى شأن عادات الناس وأسلوب معيشتهم، تحوم الشبهات المبررة حول مجموعات ترغب فى أن تفرض بالقوة، بل وبالقتل أحيانا، رؤاها لسلوك الناس. ولأن هذه المجموعات لن تقوى على أن تفرض رؤاها بالقوة على كل الناس فى كل مدينة وكل حى وكل شارع ، فقد يصير الأمر إلى قواعد صارخة فى تباينها فى السلوك المسموح للناس باعتناقه. أى حكم هذا الذى يترك وحدة البلاد تنكسر بهذا الشكل؟

 

●●●

 

أما على المستوى السياسى والتأسيسى، فحدث ولا حرج! الفوضى ضربت بأطنابها فى عملية بناء النظام السياسى الجديد. ليس ضروريا استعراض بدايات هذه العملية، وإن كان أصل الفوضى يرجع إلى هذه البدايات، ويكفى النظر، بدون حاجة إلى تمعن، فى أحداث الشهر المنصرم. صدر حكم المحكمة الدستورية ببطلان انتخابات مجلس الشعب، وبالتالى بعدم تشكل مجلس الشعب أصلا وليس بحله، وأيا ما كان الرأى فى الحكم فإنه ينتهج نهج قضاء سابق للمحكمة، بمعنى أنه غير ملفق. ومع ذلك فإن توقيت صدور الحكم قبل ثلاثة أيام من الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، أقل ما يقال فيه إنه لم يكن موفقا وأنه بذلك فتح الباب على مصراعيه للقيل والقال. وسارع المجلس العسكرى إلى إصدار قرار بحل مجلس الشعب فى تفسير جانبه الصواب لحكم المحكمة الدستورية، والقرار لم يكن مطلوبا لأنه لم يقض بحل المجلس، وإنما بعدم تشكله أصلا كما سبقت الإشارة. ثم بالغ المجلس العسكرى  فأصدر الإعلان الدستورى المكمل مانحا نفسه صلاحيات غير مسبوقة تضعه بمنأى عن النظام السياسى وعن المسئولية أمام ممثلى الشعب المنتخبين ديمقراطيا، ومعطيا لنفسه كذلك، ولغيره، سلطة التدخل فى عملية صياغة الدستور. إن كانت الرغبة هى تأمين الوصول إلى دستور متوازن يحفظ الحقوق والحريات، ويصون أسس الدولة الحديثة فى مصر، فلقد كان الأجدر هو تصميم عملية الانتقال إلى النظام السياسى الجديد، ومنذ البداية، بشكل أفضل يضمن التمثيل العادل لكل القوى السياسية والاجتماعية، ولمناظيرها للتطور السياسى والاجتماعى والثقافى فى مصر. ولم تمض أسابيع ثلاثة حتى زاد الطين بلة صدور قرار رئيس الجمهورية الجديد بسحب قرار المجلس العسكرى وبإعادة مجلس الشعب للإنعقاد، ضاربا بذلك عرض الحائط بحكم المحكمة الدستورية الذى يعتبر أن المجلس لم ينشأ أصلا، فكيف يمكن إعادته للانعقاد؟ لا يمكن أن يكون قد غاب عن رئيس الجمهورية أو عن مستشاريه أن قرار المجلس العسكرى كان لغوا لا لزوم له وأنه لم يقدم أو يؤخر كثيرا فى الآثار المترتبة على حكم المحكمة الدستورية. ماذا إذا صدرت عن المجلس العائد للانعقاد قوانين وقعها رئيس الجمهورية ونشرت فى الجريدة الرسمية وسار عليها الناس، ثم طعن عليها من طعن فاصدرت المحكمة الدستورية أحكاما بعدم دستوريتها؟ أين مصلحة الناس وأين المصلحة العامة المفترض فى القائمين على النظام السياسى صونهما؟ هل يمكن تجاهل أحكام المحكمة الدستورية؟ مجرد السؤال الإفتراضى كبيرة، ولكن الأكبر منها هو أن تجاهل هذه الأحكام يفتح الباب واسعا، ومن باب أولى، أمام تجاهل كل أحكام النظام القضائى. أى حكم للبلاد هذا الذى لايطمئن فيه الناس إلى نظام قضائى يصون مصالحهم وحقوقهم فيرتدون بذلك إلى شريعة الغاب التى تمزق نسيج المجتمع؟ ويبلغ العبث ما لا نتوقع وللأسف أن يكون منتهاه بأن تحكم المحكمة الدستورية بوقف قرار رئيس الجمهورية بعودة المجلس للإنعقاد، فيعتبر متحدث باسم الرئاسة أن الحكم منعدم لأنه صادر عن غير ذى اختصاص! بعدما حدث بشأن عملية صياغة الدستور، وبخصوص بطلان مجلس الشعب وإعادته، قد لا يبقى ثمة مجال كبير للتعجب من عدم تكليف شخصية بتشكيل حكومة جديدة بعد خمسة عشر يوما من تاريخ فاصل هو تاريخ تسلم أول رئيس منتخب للسلطة فى البلاد! إن هذا هو أول إجراء يتخذه رئيس جديد لأى دولة حتى وإن استغرقت الشخصية المكلفة وقتا فى تشكيل حكومتها، فما بالك إن كان هذا الرئيس يفتتح عهدا جديدا فى حكم البلاد!

 

●●●

 

أزمة الحكم وشلله ليسا مستغربين فى فترات الثورة والتحول، ولكن هذه الأزمة وهذا الشلل لا ينبغى أن يمتدا وكأنما الزمن بغير ثمن، خاصة فى بلد نام مثل مصر يرزح تحت مشكلات عديدة ويعانى أبناؤه من تبعات التخلف الإقتصادى والاجتماعى والسياسى. كانت السلطوية تحديا أمام أبناء مصر الحديثة عقودا وراء عقود، وبثت هذه السلطوية وهما هو أنها نجحت فى الحكم بكفاءة وفاعلية. كذب الزمن هذا الادعاء وكشف عن فشل السلطوية فى تحقيق الصالح العام، فلما هب الناس انهارت السلطوية تحت ثقل خيبتها. قد تغرى البعض فكرة بناء سلطوية جديدة، ولكنها فكرة مآلها الفشل ،فأنواع السلطة، وأوزانها النسبية، وتوزيعها فى هذا الزمن يجعل من الصعب الإمساك بكل خيوطها فى الأيدى نفسها وإعادة بناء السلطوية ، والتاريخ، فى نهاية الأمر، لا يكرر نفسه إلا على شكل المسخرة.   

 

التحدى الحقيقى فى الفترة الراهنة هو فى الحفاظ على تكامل المجتمع المصرى ووحدته المهددين، والشرط لتحقيق ذلك هو تأمين حكم كفؤ وفعال للبلاد، وهو ما لن يتأتى إلا إن اقتنعت كل القوى السياسية والاجتماعية أن أيا منها لن تستطيع فرض رؤاها وحدها على ما عداها من القوى. على كل هذه القوى، العسكريين، والإسلاميين الذين ينتمى إليهم رئيس الجمهورية، ومعهم الليبراليون واليسار، أن يلتقوا عند أرضية وسط يشيدوا عليها البناء السياسى الديمقراطى الجديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved