ثورة أم انقلاب؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: السبت 13 يوليه 2013 - 11:48 ص بتوقيت القاهرة

فى نكتة قديمة، يُسأل شخص عن حاصل جمع 3 + 4، فيقول الإجابة تتوقف على ما إذا كنت بائعا أم مشتريا! تذكرت هذه النكتة عندما قرأت ما نشر من تعليقات فى الصحف على ما حدث فى مصر خلال الأيام القليلة الماضية، وبعض ما نشر من تعليقات عليه فى الخارج أيضا.

 

جعلتنى هذه التعليقات أقول لنفسى إن تلك النكتة القديمة أقرب إلى وصف الواقع مما نظن، أى أنها ليست نكتة على الإطلاق.

 

فالذى حدث فى 30 يونيو والأيام القليلة التالية له، فيه بالطبع سمات الثورة الشعبية، ولكن فيه أيضا بعض ملامح الانقلاب العسكرى. لقد خرج الملايين من المصريين، من مختلف الطبقات والاتجاهات، وفى مختلف المدن والمحافظات، يهتفون بسقوط رئيس الجمهورية ونظامه بأكمله، واحتلوا مراكز مهمة فى المدن الكبرى، وأعلنوا عزمهم على الاستمرار فى التظاهر أو الاعتصام حتى يسقط النظام ويرحل الرئيس، مما جعل استمرار النظام من شبه المستحيل.

 

ولكن الضربة القاضية جاءت من الجيش، إذ هدد أولا بأنه إذا لم يصل النظام إلى حل يرضى الثوار خلال 48 ساعة، سوف يتدخل الجيش لفرض إرادته، ثم قام بعد انتهاء هذه المهلة، دون أن يبدى النظام الحاكم أى استجابة، بفرض إرادته بالفعل فعزل الرئيس وأحل غيره محله.

 

هناك إذن ثورة شعبية لا شك فيها، أنهكت قوة النظام وجعلت من السهل القضاء عليه، وقد أظهر الجيش نحوها تعاطفا ولكنه لم يبدأها ولم يشترك فيها. ومع ذلك فإن النظام لم يسقط إلا بإجراء اتخذه الجيش. لقد اتخذ الشعب قرارا حكيما وبالغ التحضر بأن تكون ثورته سلمية تماما، ولكن هذا القرار الحكيم والمتحضر هو أيضا الذى جعل الشعب غير قادر على إسقاط النظام دون تدخل من الجيش.

 

أظن أن ما سبق وصف صحيح لما حدث: نعم، هناك ثورة، ولكن كان هناك أيضا تدخل عسكرى يصح وصفه بالانقلاب. فطبقا لقاموس محترم: «الانقلاب هو الإطاحة المفاجئة والعنيفة بحكومة، خاصة من جانب الجيش».

 

وأظن أن من الممكن أن نصف تدخل الجيش فى حالتنا بأنه كان مفاجئا كما يمكن وصفه بالعنف. ولكن ما حاجتنا إلى القواميس عندما يتعلق الأمر بظاهرة تحتدم حولها المشاعر ويشتد فيها الخصام والتحيز؟ فى هذه الحالة يذهب الراضون عما حدث، والساخطون على الحكم الذى سقط، إلى أن ما حدث كان ثورة لا شك فيها، إذ إن الثورة تعبر عن رغبات الناس ومن ثم فهى أقرب إلى النظام الديمقراطى المحبوب، أما وصف الانقلاب فيوحى بشىء من الخيانة أو المكر، وإذا حدث ضد حكومة منتخبة، فإن اللفظ يوحى بالتنكر لمبادئ الديمقراطية.

 

فى الناحية الأخرى تجد الساخطين على ما حدث، والمؤيدين للإخوان وللرئيس الذى تم عزله، يحبون أن يصفوا ما حدث بالانقلاب، لنفس السبب المذكور، ويرفضون رفضا باتا القول بأن خلع الرئيس كان نتيجة ثورة.

 

كان طريفا أن تلاحظ هذا الانقسام الحاد فى موقف المعلقين على الأحداث المصرية، فى وسائل الإعلام المصرية والأجنبية. لقد بدا الأمر واضحا تماما لكل معلق، ولا يسمح بأى نقاش. إنه طبعا ثورة، أو هو طبعا انقلاب، على حسب موقعك من الإخوان المسلمين. ولا يهم بعد ذلك ما إذا كنت محللا سياسيا أو فقيها دستوريا أو رئيسا لحكومة أجنبية. التردد الوحيد، فى حدود علمى، ظهر فقط فى موقف الإدارة الأمريكية، ولكنه تردد يؤكد ظاهرة التحيز ولا ينفيها.

 

فبعض التصريحات الرسمية الأمريكية توحى بأن ما حدث فى مصر كان يعبر تعبيرا صحيحا عن إرادة معظم المصريين، ولكن بعضها يدين استخدام القوة فى معاملة رجال النظام الذى تم عزله، ويدعو إلى عدم إقصائهم.

 

هذا التردد لا يرجع بالطبع (بناء على معرفتنا بأساليب السياسة وخصالها) إلى عدم استشارة القواميس الجيدة فى تعريف الثورة أو الانقلاب، ولا إلى صعوبة الموضوع أو عدم وضوح الفكر، بل إلى رغبة الإدارة الأمريكية فى تحقيق هدفين متعارضين: تأييد حركة الجيش المصرى ضد الرئيس المخلوع (لأسباب ليست واضحة تماما لى بالنظر إلى تأييد الإدارة الأمريكية لنظام الإخوان حتى آخر لحظة)، ورغبتها فى نفس الوقت فى الاحتفاظ بدور لجماعة الإخوان، ربما لما يمكن أن يحققوه لها من نفع فى المستقبل.

 

يضاف إلى ذلك رغبتها فى الرد على منتقديها فى داخل الولايات المتحدة، الذين يعيبون عليها تأييدها لخطوة غير ديمقراطية، فضلا على رغبتها فى الاستمرار فى تقديم المعونة السنوية للجيش المصرى التى يشترط القانون الأمريكى ألا تقدم لنظام يتنكر للديمقراطية.

 

●●●

 

إن التوصيف الصحيح لما حدث فى مصر، لا يبدو لى أمرا صعبا على الإطلاق، إذ لابد من الاعتراف بوجود ملامح ثورة وملامح انقلاب فى نفس الوقت. ولكن هذا الاعتراف لا ينهى المشكلة بالطبع، إذ لا يزال على المرء أن يتخذ موقفا بتأييد أو استهجان ما حدث. هذا التأييد أو الاستهجان لا يتوقف فى رأيى على ما إذا كنا سنصف ما حدث بالثورة أو بالانقلاب. فالثورة ليست شيئا محمودا على الدوام، كما أن الانقلاب ليش شيئا مذموما على الدوام.

 

ما أكثر الأمثلة فى التاريخ لثورات بدأت شعبية ومحمودة للغاية ثم تحولت إلى ديكتاتورية ذميمة، ولانقلابات بدأت عسكرية ودُبرت فى الخفاء، ثم تحولت إلى تحقيق أهداف وطنية رائعة. والتاريخ المصرى الحديث يعطينا عدة أمثلة على هذا وذاك. فحركة محمد على فى بداية القرن التاسع عشر بدأت كانقلاب، وارتكبت فى البداية أعمالا غير أخلاقية بالمرة (تذكر مثلا مذبحة المماليك)، ولكننا مازلنا حتى الآن نلهج بالثناء على ما حققه حكم محمد على من نهضة فى مصر.

 

وحركة الجيش فى 23 يوليو 1952، بدأت بانقلاب لم يجرؤ أصحابه فى البداية على تسميته بأكثر من «الحركة المباركة»، ولكن هذا الانقلاب تحول إلى ثورة حققت أهدافا وطنية رائعة خلال الخمسة عشر عاما التالية. بالعكس من ذلك كان ما حدث فى 25 يناير 2011 ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، ولكنها بعد أن أسقطت نظاما فاسدا فى 11 فبراير تحولت بالتدريج إلى شىء أقرب إلى الانقلاب، إذ أبدت السلطة الحاكمة تهاونا مدهشا مع أركان النظام الفاسد، ولم تبد الحزم الكافى لا فى استرداد الأموال التى نهبوها، ولا فى استبعاد فلولهم من المشاركة فى النظام السياسى بعد الثورة.

 

كذلك فإنه، بعد انتخابات شعبية فى 2012، أتت برئيس جديد، استخدم هذا الرئيس الجديد أساليب ديكتاتورية فى الحكم وفى تمكين جماعته من الاستئثار بمقاليد الأمور. ها هى الآن ثورة جديدة تقوم فى 2013، رائعة بكل المقاييس: فى شمولها وسلميتها وإخلاص أفرادها ووطنيتهم ومطالبهم المشروعة. وهى بهذه الصفات استحقت بجدارة دعم الجيش ومساندته. هذا الدعم من الجيش، قد تسميه انقلابا إذا شئت، ولكنه كان عملا رائعا أيضا، نأمل ألا يتحول إلى شىء آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved