التاجر مفلس.. «صفقة القرن» هل هى صفقة أصلا؟

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: الأحد 14 يوليه 2019 - 12:12 م بتوقيت القاهرة

منذ أكثر من عامين أو ثلاث سَرَبت الإدارة الأمريكية كلام عن شىء أسمَوه «صفقة القرن» ولكن بدون تسريب أى ملامح لهذه الصفقة، وقيل إنها ستحل القضية الفلسطينية ومشاكل الشرق الأوسط، وأنها ستشمل كل بلدان المنطقة وسيعم الرخاء على الجميع. ومع مرور الوقت أخذت التساؤلات عن هذه «الصفقة» تتزايد بشكل مضطرد وأطلق العنان لكل التخيلات الممكنة وغير الممكنة لإثارة الشغف لدى الشعوب العربية وبالأخص الشعب الفلسطينى. تماما كما يفعل التاجر (المستحدق) لتسويق سلعة سوف يطرحها فى الأسواق من خلال خلق حالة من الترقب والانتظار لدى المستهلك، مما يدفع المستهلكين للمزاحمة لاقتناء هذه السلعة لحظة طرحها فى الأسواق، حتى إن لم يكن هناك حاجة حقيقة لاقتنائها. وأخيرا وبعد طول انتظار وفى يومى 25 و 26 يونيو الماضى رفع الستار عن «الصفقة» وظهرت ملامح شىء لا أدرى إن كان من الممكن وصفه «بالصفقة»؟
***
هناك مثل يؤمن به الغربيون عموما والأمريكيون خصوصا يقول «لا يوجد شىء لا يستطيع المال أن يشتريه» كل شىء يمكن أن يشترى أيا كان: كرامة، إخلاص، شرف، أمانة، عرض، وطن وبشر بما فى ذلك شراء من يقتل ويسلب ويسرق ويغتصب... ووو. أظن أن هذا المثل هو الأساس والمبرر الفلسفى لليبرالية الجديدة المتوحشة التى تُدير اقتصاد العالم اليوم. وعلى ما يبدو أن هذا المنطق هو المسيطر على «أمخاخ» من تخيلوا ووضعوا «صفقة القرن»، فهى ليست بصفقة سياسية أو اقتصادية ولا حتى بصفقة لإظهار نوايا حسنة أو حتى لحفظ ماء الوجوه، فهى لا ترتقى حتى إلى مرتبة الصفقة، ناهيك عن أن تكون «صفقة القرن».
فعلى المستوى السياسى هذه المدعوة «صفقة» لا تتقاطع بالمرة، حتى ولو بالصدفة، مع أى مطلب من مطالب الشعب الفلسطينى، ولم تتحدث عن إنهاء الاحتلال ولا حتى عن الشعب الفلسطينى كشعب له حقوق مشروعة وتاريخ وحاضر ومستقبل، بل تتحدث عن الفلسطينيين كمجموعة من البشر تقطن هذا المكان بلا ماضٍ، وممكن إرضاؤهم أو بمعنى أصح الضحك على ذقونهم وشرائهم بأقل القليل. وليس «للصفقة» أى مرجعية دولية أو تاريخية أو قانونية، بل إن سقفها السياسى، إن وجد، أقل بكثير من أى عرف أو اتفاق دولى (حتى لو كان الفلسطينيون قد قبلوه على مضض)، بل إنها تجاهلت قرارات الأمم المتحدة سواء الصادرة عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن، وتناست حل الدولتين واللاجئين وحق العودة والقدس. وعلى ما يبدو أن مرجعية «الصفقة» هى يهودية إسرائيل.
أما على المستوى الاقتصادى فالأمر لا يقل غرابة وتغليف سلع «الصفقة» (الافتراضية) أكثر استخفافا بالعقول، فلقد تم ترويج «الصفقة» على أنها صفقة الـ 51 مليار دولار. ولكن عند التدقيق يتضح أن من الـ 51 مليارا هناك 11 مليارا من المفروض أن توفرها الاستثمارات الأجنبية، وبالطبع لا أحد يدرى إن كانت ستأتى أم لا. وهذا يعنى ببساطة أن قيمة «الصفقة» 40 مليارا فقط وليس 51، ثم إن المستفيد من الصفقة ليس فقط فلسطين بل ثلاثة بلدان عربية أخرى (مصر والأردن ولبنان)، ثم إن هذه الـ 40 مليارا التى ستقسم على الأربعة بلدان ستوزع على مدى 10 سنوات وليس فى عام أو عامين أو حتى ثلاث.
***
نصيب مصر فى هذه الصفقة حوالى 800 مليون دولار منحا و4 مليارات قروضا فى العشر سنوات. مبلغ المنحة أقصى ما يمكن أن يقال عنه إنه تافه بالنسبة لحجم اقتصاد مصر ولا يستحق التعليق عليه، ولكن القروض غالبا ما ستكون ضارة لأنها ستزيد من عبء الديون (المتضخمة أصلا) على مشاريع قد تكون مصر ليست فى حاجة لها سياسيا أو اقتصاديا.
وفيما يخص الشعب الفلسطينى من «صفقة الأربعين مليار على عشر سنين على أربعة بلدان» هو 26 مليار دولار منها 11,4 مليار منحا والـ 14,6 مليار المتبقية قروض، وهنا يوجد محاولة لتثبيت مغالطة وهى إقراض شعب تحت الاحتلال وتنصل من المسئولية الدولية تجاه الشعب والقضية الفلسطينية. ولكن ليست هذه هى المغالطة الوحيدة، فإذا نظرنا للمعدل السنوى لنصيب فلسطين فى هذه «الصفقة» يتضح أن المنحة السنوية تقدر بحوالى 1,1 مليار دولار وهناك حوالى 1,5 مليار دولار قروضا سنوية، يجب أن ترد هى وفوائدها قبل أو بعد السنوات العشر. وعلينا إدراك أن معظم المشاريع التى سوف تمول من هذه الصفقة غالبا سوف ينفذها شركات أمريكية أو إسرائيلية أى أن هذه الأموال سوف تعود بالنفع الأكبر على الشركات المنفذة وليس الشعب الفلسطينى.
***
ولتقدير كبر حجم المغالطة يجب مقارنة أرقام «الصفقة» بما يصل اليوم إلى الشعب الفلسطينى تحت ظروف الاحتلال. فوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأدنى (الأونروا) تقدم خدمات لحوالى 2,5 مليون لاجئ فلسطينى فى الضفة الغربية وغزة بميزانية تقدر عل الأقل بحوالى 650 مليون دولار سنويا، وتمول الدول المانحة هذه الميزانية، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية أوقفت دعمها للأونروا منذ عامين. كذلك يصل إلى الشعب الفلسطينى منح سنوية تقدر بحوالى 800 مليون دولار كمساعدات تنموية ومساعدات لدعم موازنة الحكومة، أيضا الولايات المتحدة أوقفت هذا الدعم منذ عامين. أضف إلى ذلك أن هناك منحا سنوية (غير أمريكية) للقطاع الخاص الفلسطينى وللمنظمات غير الحكومية تقدر بحوالى 250 مليون دولار سنويا. وهذا يعنى أن مجموع المنح التى تصل إلى الشعب الفلسطينى اليوم فى الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت ظروف الاحتلال، يقدر على الأقل بحوالى 1,7 مليار دولار سنويا وهذا أكثر مرة ونصف من منح «الصفقة».
ببساطة «صفقة الأربعين على عشرة على أربعة» لا هى معنية بانهاء الاحتلال ولا برد حقوق الشعب الفلسطينى، ولا هى حتى مجدية اقتصاديا، بل على العكس فما تطرحه اقتصاديا أقل مما هو متاح الآن.
أيها السادة إن قضية الشعب الفلسطينى وأرضه ووطنه لا تحل «بصفقة»، حتى لو كانت صفقة حقيقة.
هذا المقال يعبر عن رأى الكاتب وليس بالضرورة عن موقف المنظمة التى يعمل بها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved