فى المستشفيات.. العميل ليس دائما على حق

أحمد حسين
أحمد حسين

آخر تحديث: السبت 13 يوليه 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

(العميل دائما على حق) شعار أطلقه تجار التجزئة فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذى تلاه، وكان الغرض منه استنفار فريق الخدمة لإعطاء أولوية كبيرة لرضاء العميل والتعامل مع شكواه بجدية، نجح مستخدمو هذا الشعار من التجار مثل هارى سيلفريدج ومارشال فيلد أن يكونوا من أشهر التجار تأثيرا وتحقيقا للربح فى أمريكا والمملكة المتحدة وقتها.
على مر العقود انحرف المفهوم لتلك الشعار لدى المؤسسات لأسباب مختلفة، ليروج المعنى الحرفى للشعار كون العميل دائما محقا فى طلبه ومسموحا له الإتيان بأى تصرفات ضد مقدم الخدمة، إضافة إلى استحداث شعارات أخرى انتشرت فى بعض المجتمعات مثل (السيئة تعم والحسنة تخص) بما يخالف فى معناها وتطبيقها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.
الاعتداءات على المستشفيات الحكومية والعاملين بها، لا تكاد تنحسر حتى تعقبها موجة من اعتداءات متوالية فى أماكن متفرقة وكأنها شرارة نار تطفئ بالهواء، الأمر الذى أصدرت معه وزيرة الصحة أوائل يوليو العام الماضى قرارا جيدا ألزمت فيه المستشفيات التابعة لها بقيام الإدارات بالإبلاغ الرسمى لجهات التحقيق المعنية حال تعرض الطاقم الطبى للاعتداء وأيضا موافاة الوزيرة بتقرير عن ذلك، وسبقها فى ذلك المجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية.. إلا أن تلك القرارات لم تجد فى انحسار موجات الاعتداءات بنسبة ملموسة حتى أن وكيلة لجنة الصحة بمجلس النواب تقدمت بطلب إحاطة حول تكرار حالات الاعتداءات بعد حادثة معهد القلب الشهيرة مارس الماضى، أسرد أمثلة لوقائع اعتداء فى فترة زمنية حديثة بأماكن مختلفة قد تصل بنا لأسباب استمرار الاعتداءات أو نستنبط منها الحلول.
***
فى الأسبوع الأخير من يونية الماضى مواطن يعتدى على طبيب بمستشفى البدارى بأسيوط ويقول د. عبدالحكيم عيسى، عضو مجلس نقابة الأطباء (مواطن ذهب لعمل تقرير طبى واختلف مع الطبيب فاعتدى عليه، ورغم علم مدير المستشفى بتعليمات الوزيرة وتواصل النقابة معه إلا أنه رفض أن تقوم إدارة المستشفى بتحرير البلاغ رغم تفهم مأمور مركز الشرطة لتلك الإجراءات)، ويضيف الطبيب كيرلس محسن المعتدى عليه (إدارة المستشفى تركتنى أذهب وحيدا لأشتكى بشخصى فى الشرطة والنيابة دون أى دعم منها)، وفى السبت الأخير من ذات الشهر تحدث واقعة فجة بمستشفى الصدر بالعباسية، فتفاجئ الطبيبة رئيسة قسم الرجال بالمستشفى باعتداء لفظى يتطور فى دقائق إلى بدنى تتقاسمه معها ممرضتان تدخلتا لصناعة حاجز بين الطبيبة والمعتديات مرافقات المريض بينما استطاعت طبيبة أخرى أن تتحاشى اللكمات.. السبب أن الطبيبة أخبرت المعتديات أنها ستقيم حالة المريض وإن لم تكن تحتاج للحجز بالقسم سيتم وضع المريض تحت الملاحظة فى قسم الاستقبال، الأكثر إحباطا للفريق الطبى كان تعامل مدير المستشفى مع الواقعة حيث أخبرهم أنه لا يوجد فى الإجراءات الإدارية ما يخول للإدارة الإبلاغ طالما لم تحدث تلفيات بالمستشفى ونصحهم بالذهاب إلى قسم الشرطة بصحبة أمن المستشفى والمعتديات لتحرير محضر شخصى بالتعدى، وكالعادة تقمن المعتديات أيضا باتهام الطبيبة والممرضات حتى تصبح أطراف المحضر متساوية أمام القضاء، ويذهبن جميعهن بعربة الترحيلات للنيابة.. من البديهى أن يصل القارئ للنتيجة المتوقعة وهى اضطرار الطاقم الطبى للتنازل تفاديا للأحداث المؤلمة التى تنتظرهن فى ساحات القضاء، ولكن الأهم أن يعلم المواطن ووزارة الصحة أن الطبيبة تقدمت بأجازة تمهيدا لإنهاء إجراءات النقل من المستشفى فحسب قولها لن تستطيع أن تمارس المهنة فى مكان أُهدرت به كرامتها وتقاعست إدارته عن إنصافها.
وفى الأسبوع الأول من يوليو الجارى يعتدى مرافقون لمريض على أفراد الأمن بمستشفى ميت غمر بالدقهلية عند محاولة منعهم دخول العناية المركزة عنوة، وبمستشفى المنشاوى بطنطا امتعض نجل مريض عندما أخبرته الطبيبة بعد الفحوصات أن والده لا يعانى من ارتشاح الرئة كما يدعى، فاعتدى لفظيا على الطبيبة وبدنيا على طبيب آخر.. فى كلتا الواقعتين قامت إدارة المستشفيين بالابلاغ.
واقعة أخرى شهدت بعض أحداثها مساء الخميس الأول من الشهر الجارى بمستشفى 6 أكتوبر للتأمين الصحى بالدقى، دخل مريض مُسن مع أسرته يشتكى بثقل فى اللسان الذى رأى معه الطبيب إجراء فحوصات وصفها للمريض والتى لم تُقنع الابن الأصغر للمريض فسب الطبيب مكررا السباب أثناء خروجه ليسأله طبيب آخر: ماذا فعل لك الطبيب لتسبه! وكانت الإجابة ضربة من عصا فى صدر الطبيب.. على مدار ساعتين قضيتها فى محاولات مع أمين الشرطة الذى يؤكد أن تعليمات مأمور قسم شرطة الدقى أنه فى حالة تحرير محضر لابد من اصطحاب الطبيبين المُعتدى عليهما مع المعتدى إلى قسم الشرطة ثم النيابة ــ لاحظ أن الوقعة مسجلة بكاميرات المراقبة ــ خلالها كان الأطباء ومنهم صاحبا الواقعة يناظرون المرضى مرتادى قسم الطوارئ محل الواقعة، لم يقتنع مأمور القسم أن الاعتداء على الطبيب أثناء تأدية عمله جريمة وأن إصراره على اصطحاب الطبيب إلى القسم تاركا عمله تعريض لحياة المرضى للخطر، متجاهلا أو منكرا لتعليمات وزيرة الصحة بإبلاغ إدارة المستشفى عن الاعتداء.. لم يكن هذا هو السبب فى قبول الأطباء التنازل بعد اعتذار أهل المريض وتعنيفهم لابنهم، بل كان إشفاق الأطباء على المريض من تدهور حالته وهو يرى القبض على ابنه.
***
أمثلة من وقائع مختلفة تباينت فيها مواقف إدارات المستشفيات وأفراد الشرطة والأطباء، ولكن بالتأكيد الجميع فيها خاسر والأرجح أن الخسارة الأكبر من نصيب المريض سواء لتعطيل الفريق الطبى عن مناظرته أو للندبة فى نفوسهم والتى من الطبيعى أن تؤثر على أدائهم.
كم من أحكام الإعدام صدرت فى ساحات المحاكم ولم يعتد أهالى المتهمين على القضاة، وكم من قائدى سيارات صدمت مواطنين ولم نسمع أن أهلهم ثأروا من السائقين، أيضا لا أرى عدم رضاء المواطن عن الخدمة الصحية مبرر للاعتداء، فكم من المؤسسات التى تؤدى خدمات غير مُرضية للمواطن.. المفهوم الخاطئ الذى تأصل عند غالب مديرى المنشآت الصحية لشعار (العميل دائما على حق) الذى جعلهم يتهاونون فى حق منشآتهم والعاملين بها، والقاعدة الظالمة (السيئة تعم) التى قد يُطبقها المجتمع على الفريق الطبى نتيجة مشاهدته للشكاوى المُرسلة التى تعرضها وسائل الاعلام دون تعليق من أصحاب التخصص، أيضا عدم استجابة الشرطة فى كثير من الأحيان بتحرير محاضر التعدى عن إدارات المستشفيات وإصرارهم على وضع الطبيب المُعتدى عليه سواء بسواء مع المتهم مما يكون معه فى أغلب الأحيان انتهاء الوقائع بالتنازل.. كل ذلك هون لدى قاعدة عريضة من مرتادى المستشفيات الاعتداء على العاملين بها وتحطيم محتوياتها.
الحل يكمن فى التنسيق بين القطاعات المختلفة، وأن تقوم زارة الصحة بتدريب مديريها على أن القيادة الناجحة من خصائصها دعم وتحفيز مقدمى الخدمة لتقديم أفضل ما لديهم وليس التخلى عنهم والتغاضى عن إهانتهم، وإلزام مديرى المستشفيات ومحاسبتهم على تنفيذ تعليمات الوزارة بتحرير محاضر التعدى ومتابعتها، ودور وزارة الداخلية بتوجيه التعليمات إلى أفرادها بقبول تحرير المحاضر من إدارة المستشفيات بصفتها وعدم اصطحاب الفريق الطبى المُعتدى عليه إلى أقسام الشرطة واحتجازهم كما لو كانوا متهمين.. دور مهم على وسائل الاعلام المختلفة فى تحرى الموضوعية والتأكد من صحة شكاوى الخدمة الطبية قبل عرضها وإبراز الجوانب المضيئة إلى جانب ما يعرضه البعض من وقائع للإثارة.
ليس الهدف هو العقاب، كل ما نؤكد عليه هو ترسيخ ثقافة احترام المنشآت العامة والعاملين بها، وهذا لن يتأتى إلا بتطبيق القانون ونشر الوعى وتحرى المصداقية والمهنية فى عرض القضايا الصحية، مع التأكيد على حق المواطن فى الشكوى أيضا بالطرق القانونية.. نأمل أن تحل قاعدة (الثواب والعقاب) بدلا من (السيئة تعم) وإن شئت فقل (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

طبيب بوزارة الصحة

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved