الشرق الأوسط الجديد

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 13 يوليه 2020 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

لست أعنى بالعنوان آنف الذكر مناورة ابتدعها القيادى الإسرائيلى الراحل شيمون بيريز أواسط تسعينيات القرن الماضى بذات المسمى مبتغيا تطبيع علاقات بلاده الاقتصادية مع محيطها العربى دونما إحلال لسلام دائم وعادل وشامل، كما لا أقصد به كذلك محاولات واشنطن الالتفافية لإعادة هندسة المنطقة جيواستراتيجيا بما يلبى ذات المأرب الإسرائيلى ويخدم مصالح أمريكيا الشرق أوسطية، بقدر ما أنتوى تسليط الضوء من خلاله على حزمة التغيرات والتحولات الاستراتيجية التى تلقى بظلالها على التفاعلات البينية لدول الإقليم المضطرب توطئة لإعادة تشكيله، ومن أبرزها:
تهافت التسلح:
فلقد كشفت دارسة حديثة لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام الدولى عن مفاقمة الحروب والتوترات الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط لمشتروات دولها من الأسلحة، حيث قفزت بنسبة 103%، خلال الفترة من 2013 ــ 2017، لتستأثر وحدها بثلث الصفقات التسليحية التى تم تسويقها عالميا، والتى استحوذت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على ما يناهز 98% منها، فى الوقت الذى رفعت إسرائيل عدد رءوسها النووية من 80 رأسا حتى العام الماضى إلى 90 بحلول العام الحالى، قبل أن تطلق فى السادس من يوليو الجارى، قمرها التجسسى الجديد «أفق 16» إلى الفضاء. وبينما يأتى هذا المنحى الشرق أوسطى ضمن سياق توجه عالمى محموم نحو التسلح والعسكرة، فقد صادف أيضا تحولات لافتة فى طبيعة الصراعات وشكل النزاعات التى تجتاح منطقتنا، من الاقتتال على الأرض إلى التناحر حول مصادر المياه وموارد الطاقة فى البر والبحر، خصوصا بعد الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ثم بسيادة الأخيرة على هضبة الجولان السورية المحتلة، فيما هرولت بعض شركات الطاقة الأمريكية للتعاقد مع الإسرائيليين للتنقيب عن النفط والغاز فى أرجائها.
منظومات ذكية:
حيث تشهد مسارح العمليات بالمنطقة تعاظما ملحوظا فى الاعتماد على المنظومات التسليحية الدقيقة والذكية والأكثر فتكا كالصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، علاوة على الطائرات المسيرة بدون طيار، سواء الاستطلاعية منها أو القتالية. وتتسم تلك المنظومات بسمات استراتيجية مثيرة، بداية بتواضع كلفتها، مرورا بقدرتها الفائقة على تحديد أهدافها بسهولة قبل أو أثناء الطيران، وإصابتها بدقة بالغة. وخلافا للطائرات الحربية التقليدية، بمقدور المسيرات تنفيذ عمليات نوعية خاطفة بكثير من الدقة وقليل من المخاطرة، حيث يصعب رصدها من قبل الرادارات الثابتة لصغر حجمها وتحليقها على ارتفاعات منخفضة وعدم انتاجها بصمات حرارية أو صوتية تتيح رصدها وتعقبها. أما على الصعيد القانونى، فيصعب إخضاعها ومستخدميها لأية مساءلة حالة وقوع انتهاكات، إذ لا تلتزم بقواعد الطيران الحربى لجهة وضع علم الدولة المالكة عليها، أو اضطرارها لتعريف نفسها قبل دخول أجواء بلدان أخرى أو الإخطار المسبق والحصول على تصاريح الإقلاع والهبوط والمرور عبر المجالات الجوية المختلفة، أو الالتزام بعدم استهداف المدنيين والأعيان المدنية.
ومن المثير فى هذا المضمار أن استخدام تلك المنظومات التسليحية المتطورة لم يعد حكرا على الدول أو جيوشها النظامية فحسب، بعدما أضحت بيادق فى أيادى الفاعلين من دون الدول، الذين تعاظمت أدوارهم فى تفاعلات المنطقة خلال الآونة الأخيرة، كالتنظيمات الإرهابية على شاكلة «داعش» و«القاعدة»، علاوة على الأذرع العسكرية وكلاء إيران وتركيا المنتشرين فى أرجاء الدول العربية الرخوة كالعراق وسوريا واليمن وليبيا. الأمر الذى يضاعف المخاطر والتهديدات التى تتربص بالأمن والاستقرار فى المنطقة والعالم أجمع.
فمن منظور سوسيولوجى، من شأن الاضطرابات الناجمة عن النزاعات المشتعلة بالإقليم أن تولد فئة انتهازية جديدة، تعرف بأثرياء الحروب، قوامها أبطال «اقتصاديات الظل» من تجار الدم، وأمراء الحرب وقادة الميليشيات المسلحة، والعصابات الإجرامية، والمرتزقة وعناصر التنظيمات الإرهابية، والمتلاعبين بأسواق صرف العملات، وأصحاب التوكيلات التجارية المتورطين فى الأنشطة المشبوهة وغير المشروعة كاحتكار الأغذية والأدوية وتجارة الآثار والرقيق الأبيض والأعضاء البشرية وتهريب المهاجرين والأسلحة والمشتقات النفطية.
الحروب بالوكالة:
فقد اعترت النزاعات المسلحة فى المنطقة نقلة نوعية من نمط الحروب الشاملة بالأصالة عبر الجيوش الوطنية النظامية، إلى استراتيجية الحروب بالوكالة، التى تعتمد فى الأساس، على أذرع عسكرية وميليشياوية ومرتزقة، تأتمر بأمر الحكومات وتتلقى الدعم المالى والتسليحى واللوجيستى منها. وفى تحد سافر لاتفاقية الأمم المتحدة للعام 1989، التى جرمت تجنيد وتدريب واستخدام وتمويل المرتزقة، بعدما جردتهم من صفة المقاتل وحرمتهم من حقوق أسرى الحرب، تبارت كل من إيران وتركيا فى خوض غمار مغامراتهما العسكرية الخارجية من خلال الميليشيا والأذرع العسكرية الطائفية المؤدلجة الموالية. فبينما ارتكنت إيران على حزب الله اللبنانى وجماعة الحوثى فى اليمن علاوة على عشرات الميليشيا الشيعية فى سوريا والعراق، تحولت تركيا من استراتيجيتى «صفر مشاكل» و«العزلة الثمينة» اللتين كانتا تتجنبان التورط عسكريا خارج الحدود، إلى عسكرة سياستها الخارجية وتبنى استراتيجية التدخل العسكرى من خلال الحروب بالوكالة مما اضطرها إلى الاستعانة بالمرتزقة والميليشيات. فمنذ يناير الماضى، شرع إردوغان فى نقل آلاف المتمردين السوريين والمرتزقة العرب والتركمان من مختلف الميليشيات السورية الموالية، ممن استخدمهم فى غزو شمال شرق سوريا وتؤكد دوائر استخباراتية غربية وجود عناصر من تنظيم «داعش»، و«القاعدة» بين ظهرانيهم، فيما وثقت منظمة العفو الدولية ارتكابهم جرائم حرب بحق الأكراد وغيرهم من سكان المنطقة، إلى ليبيا للقتال لمصلحة حكومة الوفاق. بالتزامن، رصد تقرير أممى مطلع مايو الماضى، إرسال شركة «فاغنر» الروسية للأمن، التى يعتقد أنها ترتبط بعلاقات وثيقة بالرئيس بوتين، ما بين 800 و1200 مرتزق إلى ليبيا عمل معظمهم كمقاتلين سابقين بالجيش الروسى.
وبينما حذّرت الأمم المتحدة نهاية يونيو الماضى، من التداعيات المأساوية المرتقبة لمشاركة مرتزقة أردوغان فى المعترك الليبى، والذين تخطى عددهم 15 ألفا، حسب المرصد السورى لحقوق الإنسان، فى الوقت الذى أكد تقرير أممى أن الاعتماد على المرتزقة ساهم فى تعقيد النزاع الليبى، وتقويض احتمالات تسويته سلميا، كما خلف تداعيات كارثية على السكان المحليين، لم يستبعد خبراء تحول ليبيا إلى سوريا جديدة أو ربما أفغانستان أخرى، خصوصا إذا ما فشل إردوغان فى السيطرة على وكلائه من المرتزقة المتطرفين، أو ترويض أذرعه الميليشياوية، حالة عجزه عن الاستمرار فى إغداق عطاياه الشهرية التى تناهز 30 مليون دولار عليهم، أو إخفاقه فى التخلص منهم أو إعادة توجيههم عقب انتهاء المهام الموكلة إليهم على الساحة الليبية.
تغير قواعد الاشتباك:
فقد تمخض تحول أهداف الحروب وتغير طبيعتها وأدواتها، عن تمهيد السبيل لوضع قواعد اشتباك جديدة للمواجهات المحتملة بالمنطقة، خصوصا مع تصاعد أدوار الفاعلين من دون الدول، وتوسع التموضع العسكرى الإيرانى والتركى فى دول عربية عديدة، وعبث دول الجوار الإقليمى بالأمن المائى العربى، وبعدما تحولت منابع ومجارى المياه وآبار النفط والغاز إلى مؤججات للمواجهات، فيما أضحت ناقلات وخطوط النفط وأنابيب الغاز أهدافا للاعتداءات والهجمات الإرهابية من جانب أذرع إيران، التى نشرتها فى ربوع الإقليم وزودتها بمنظومات من الصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة.
وعلاوة على رغبتهما فى تبنى استراتيجية معالجة الأزمات بالأزمات عبر الهروب من المآزق الداخلية المتعاظمة باختلاق أزمات خارجية، يبدو أن تركيا وإيران تعلمتا الدرس الاستراتيجى جيدا من تجارب الماضى التى أثبتت، بما لا يدع مجالا للشك، عجز جيوشهما النظامية عن تحقيق انتصارات مكتملة أو حقيقية فى المواجهات المباشرة، ومن ثم عمدتا لتجنب الانزلاق إلى حرب متناظرة symmetric warfare ضد خصومها، واللجوء إلى الحرب الخاطفة غير المتناظرة Asymmetric warfare، ونقل العمليات العسكرية والمواجهات المسلحة إلى أراضى الأعداء، مع الاعتماد على الوكلاء والأذرع العسكرية. ففى حين تركن تركيا للاعتماد على المرتزقة والميليشيات الموالية فى مساعيها للتموضع الجيواستراتيجى بسوريا وليبيا واليمن والعراق، لم يتورع قاسم سليمانى، القائد السابق لفيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثورى، عن التهديد قبل مقتله بشن الحرس الثورى وفيلق القدس حربا «غير متكافئة» ضد القوات الأمريكية وحلفائها بالمنطقة. ولم تمض أيام على لقائه مختلف قادة الميليشيات الموالية لإيران ببغداد فى أبريل 2019، حتى توالت الأحداث الإرهابية التى استهدفت ناقلات نفط ومنشآت بترولية فى الخليج ومواقع حيوية جنوب المملكة بالصواريخ والطائرات المسيرة، فيما تكرر سقوط قذائف وصواريخ بالقرب من مبنى السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء العراقية.
اصطفافات جديدة:
لما كانت التغيرات الجوهرية فى البيئة الاستراتيجية لإقليم ما تعكس مستوى واتجاه التطور فى العلاقات البينية لدوله، يمكن الادعاء بأن التحالفات الإقليمية فى المنطقة غدت أقرب إلى إعادة الهيكلة. فلقد أغرى استمرار التصدع بالنظام الإقليمى العربى، أطرافا إقليمية ودولية شتى للتكالب على مقدرات أعضائه. فعلى هامش مؤتمر «التفاعل وإجراءات بناء الثقة فى آسيا»، الذى استضافته العاصمة الطاجيكية دوشنبة فى يونيو 2019، دعا الرئيس الإيرانى حسن روحانى، كلا من نظيره التركى إردوغان، وأمير قطر الشيخ تميم، إلى ضرورة تعزيز وتعميق أواصر التعاون بين بلادهم فى شتى المجالات بما يخدم مصالحهم ويدعم إرساء السلام وترسيخ الاستقرار فى ربوع المنطقة. وخلال كلمته أمام القمة الـ19 لمنظمة شنغهاى للتعاون، فى يونيو 2019 بالعاصمة القرغيزية بيشكيك، جدد روحانى الدعوة إلى توثيق عرى التقارب الاستراتيجى بين بلاده وروسيا، بغية التصدى لما أسماه بالمخططات والمؤامرات الغربية الرامية إلى استنزاف موارد دول المنطقة وكسر إرادتها.
وبموازاة التحركات التركية للتنسيق مع إيران لاستغلال المال القطرى فى اختراق الدول العربية بغية نهب ثرواتها وإحياء أمجاد امبراطوريات عثمانية وفارسية بائدة، لا تتورع أنقرة وطهران عن العمل بدأب لإعادة تموضعهما الجيواستراتيجى إقليميا ودوليا، بما يعينهما على تجاوز أزماتهما الداخلية المتنامية، وكسر حاجز العزلة وتحسين موقفهما التفاوضى المهترئ فى مواجهة خصومهما، وتعزيز قدراتهما على مقاومة الضغوط الدولية المتفاقمة، عبر تشكيل محور إيرانى تركى قطرى بدعم روسى، تجلت أحدث إرهاصاته فى المساعى المتعثرة لكل من طهران وأنقرة وموسكو لإعادة إنتاج النموذج السورى فى ليبيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved