كورونا وخسائر البنوك

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 13 يوليه 2020 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

بالأمس القريب صدر عن مؤسسة ستاندرد آند بورز جلوبال للتصنيفات الائتمانية تقرير مهم عن الخسائر المتوقعة للنظام المصرفى العالمى على خلفية أزمة كورونا خلال العامين ٢٠٢٠ و٢٠٢١. التقرير أحدث دويا كبيرا فى الأوساط المالية والاقتصادية، حيث قدّرت تنبؤاته الخسائر الائتمانية للقطاع المصرفى عن العامين المذكورين بنحو 2.1 تريليون دولار بواقع 1.3 تريليون دولار فى العام ٢٠٢٠ ونحو 0.8 تريليون عن العام ٢٠٢١. تجدر الإشارة إلى أن خسائر هذا القطاع قد ناهزت ٦٠٠ مليار دولار عام ٢٠١٩ وقبل بدء تلقى صدمات العدوى البيولوچية ثم العدوى المالية لڤيروس كوفيد ــ١٩ المستجد.
تقدير الخسائر الائتمانية يتم أساسا باحتساب المخصصات التى تكوّنها البنوك لمواجهة القروض الرديئة والتحسب لحالات التعثّر المحتمل. المخصصات تأكل من إيرادات البنوك وتؤثر سلبا على صافى الأرباح وتساهم فى تحوّلها إلى صافى خسائر. توقع التقرير المشار إليه بأن نسبة ما سوف تأكله المخصصات المكوّنة للتحوّط ضد القروض الرديئة من إيرادات ما قبل تكوين المخصص للعشرين مصرفا الأكبر عالميا سوف تبلغ ٧٥% من تلك الإيرادات عام ٢٠٢٠.
لكن بالتأكيد ليست كورونا هى المتهم الوحيد فى تحقق تلك الخسائر الائتمانية بالبنوك، وإلا لكان العام 2019 أفلت من تلك الخسائر. الحقيقة أن تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى، والحروب التجارية، وتعديلات النظام المحاسبى الأمريكى والذى بات يأخذ فى الاعتبار تكوين مخصصات عن القروض الرديئة المتوقعة على مدى عمر المصرف اعتبارا من عام 2018 ساهموا بشكل كبير فى تحقق خسائر البنوك عام 2019 وما بعدها، وإن كان هذا التعديل يؤدى إلى تراجع الخسائر فى الأعوام التالية بفرض ثبات العوامل الأخرى، لأن القروض الجديدة قد تم تكوين مخصصات للردىء منها مقدما ولسنوات قادمة. كذلك لا يمكن إغفال ما أحدثته أزمة الرهن العقارى فى عام 2008 من تغيير أدوات حصر والإفصاح عن القروض الرديئة، والتى بات تكوين مخصصات للتحوّط منها يتم بشكل أكثر كفاءة مما كانت عليه الحال قبل 2008، وهذا من شأنه التأثير بقوة فى المراكز المالية للبنوك على أثر الصدمات العالمية الجديدة مثل جائحة كورونا.
***
تقرير استاندرد آند بورز حدد المناطق الأكثر تضررا بالخسائر الائتمانية المصرفية وكان فى مقدمتها إقليم آسيا ــ المحيط الهادئ وعلى رأسه دولة الصين والتى يبلغ حجم جهازها المصرفى ما يزيد عن أجهزة كل من الولايات المتحدة (التى تعد ثانى أكبر خاسر) وبريطانيا وألمانيا واليابان مجتمعين! كما يلعب الجهاز المصرفى الصينى دورا أبرز فى الاقتصاد من نظيره فى تلك الدول، نتيجة مساهمته فى النشاط الاقتصادى بشكل فعّال عبر لعب دور الوسيط المالى الأهم فى الدولة بين المدخرين والمستثمرين، مع عدم توافر أسواق مالية غير مصرفية تتمتع بذات العمق والسيولة التى تتمتع بها أسواق الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فالمشروع الصينى يجد سبيله لتمويل إنشائه وتوسعاته ورأسماله العامل عبر القروض المصرفية فى الأساس، فى حين تلعب سوق السندات والمؤسسات غير المصرفية دورا مهما فى التمويل فى الولايات المتحدة على سبيل المثال.
لكن يخفف من أثر تضرر النظام المصرفى الصينى كما فى روسيا ومصر وعدد من الاقتصادات الناشئة طبيعة الانكشاف الائتمانى للمصارف. فحجم القروض الممنوحة للجهات الحكومية، والمؤسسات المملوكة للدولة ملكية كاملة أو مشتركة، كبير بما يكفى لتوفير ضمانة حكومية لنسبة معتبرة من الائتمان الممنوح عبر النظام المصرفى فى تلك الدول. هذه الضمانة الحكومية للقروض تلعب دورا فى معادلة مخاطر التعثّر الناتجة عن الإيقاف الكلى والجزئى للنشاط الاقتصادى، وتجعل من تكوين المخصصات عملا غير منطقى، إذ إن الدولة لا تتعثّر عن سداد القروض المحلية وفوائدها، لأنها سوف تلجأ إلى طباعة البنكنوت لسداد التزاماتها فى أسوأ الظروف. نجد هنا أن البنوك تتبنى مسلكا شهيرا لإدارة مخاطرها يسمى «تحويل المخاطر» لأن التوسّع فى إقراض الدولة عبر شراء أدوات الدين من أذون وسندات الخزانة، أو تمويل المشروعات المضمونة حكوميا يقلل من تعرّض البنوك لمخاطر التعثّر، لكنه ينقل تلك المخاطر إلى مستوى أكبر فى الاقتصاد الكلى الذى تتهدده هنا مخاطر التضخم الناتجة عن التوسّع فى طباعة البنكنوت، أو مخاطر البطالة الناتجة عن مزاحمة الدولة للمشروع الخاص على التمويل المصرفى، ومن ثم تراجع النشاط الاقتصادى وتسمم مناخ الأعمال وانخفاض معدلات التشغيل... وعادة ما تكون المخاطر مركّبة بحيث يتعرض الاقتصاد لما يعرف بالركود التضخمى.
مصر من الدول المنتمية إلى مجموعة وسط وشرق أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط والتى قدّر التقرير المشار إليه حجم الخسائر الائتمانية المصرفية بها بنحو 142 مليار دولار فقط خلال عامى 2020 و2021. معظم تلك الخسائر تتحقق فى روسيا وتركيا ثم دول مجلس التعاون الخليجى. كانت مصر نسبيا فى مأمن من صدمة التمويل العقارى فى عام 2008 أو على الأقل فى مأمن من موجاتها الأولى وضرباتها المباشرة. مصر أيضا لم تذكر فى تقرير استاندرد آند بورز الأخير ولا أتوقع أن يتعرّض نظامها المصرفى لصدمة ذات أهمية على خلفية جائحة كورونا، ولا يعد هذا من ثمار التحوّط الجيد من ضد المخاطر الائتمانية، بقدر ما يمكن وصفه بأنه نتيجة مباشرة لضعف الانكشاف الائتمانى، وقلة تدوير مدخرات القطاع العائلى داخل الاقتصاد، وتجنّب المخاطر عبر سياسات الأيادى المرتعشة والتراجع عن تمويل المشروع الخاص، فضلا عن الاكتفاء بسد عجز الموازنة العامة للدولة عبر شراء أدوات الدين الحكومى بعائدات خرافية (رغم كونها مضمونة حكوميا!) مما ينقل المخاطر إلى مؤشرات الاقتصاد الكلى كما سبقت الإشارة. لكنه نقل غير موفق للمخاطر، لأن الجانب الأكبر من تشوّه تلك المؤشرات يرتد إلى النظام المصرفى إن آجلا أو عاجلا، مما يجعلنا فى أمسّ الحاجة إلى مراجعة استراتيجيات إدارة البنوك فى مصر لمحافظها المالية خلال الفترة القادمة. لا ننكر أبدا أهمية المبادرات الأخيرة التى أطلقها البنك المركزى المصرى للخروج من تلك الحلقة المفرغة لتحويل مدخرات القطاع العائلى إلى الحكومة، ثم خسارة رءوس الأموال فى أوجه صرف لا يمكن التثبّت من جدواها. مبادرات تمويل المشروعات الصغيرة، وإعادة هيكلة مديونيات القطاعات الإنتاجية، وعدم استسهال شراء أدوات الدين الحكومى... إلى غير ذلك من مبادرات تلعب جنبا إلى جنب دورا حيويا فى إدارة النظام النقدى مع إدارة ناجحة لحصيلة النقد الأجنبى، والتى عادة ما تكون أكبر المضارين من الموجات التالية لأى صدمة مالية، حيث تتضرر العملات الوطنية بشدة كما حدث فى صدمات 1997 و2000 و2008 وغيرها.
فى عملية تجنّب المخاطر أنت فى مأمن من تلقى الصدمات المباشرة عند وقوع الأزمة، لن تخسر إذن عشرات المليارات من الدولارات خلال هذا العام والذى يليه. فى المقابل أنت تخسر مئات المليارات من الدولارات كان من الممكن أن تحققها على مدار سنوات لو خضت غمار المخاطر، وأدرت تلك المخاطر بكفاءة وفاعلية، وتلك هى تكلفة الفرصة البديلة المرتفعة للغاية والتى تتكبدها جميع مؤسسات التمويل التى تراكم الاحتياطيات بنسب تفوق كثيرا ما تقتضيه مقررات بازل وتعديلاتها المحافظة.
***
فى الختام لم يلتفت الكثيرون إلى نقاط غاية فى الأهمية ذكرها التقرير موضوع المقال لدى التعرّض إلى مجموعة الدول التى تنتمى إليها مصر وروسيا وتركيا ودول الخليج. حيث أكد على أن مضاعفة الأثر السلبى للوباء العالمى هى أمر محتمل فى تلك الدول نظرا لأنها تعانى من واحد أو اكثر من العيوب التالية، أولا: التركيز على منتجات محدودة كمصدر للدخل القومى، وهى منتجات عادة ما تخصص للتصدير فى صورة أولية، سواءً نتجت عن التعدين أو الزراعة، أو خدمات السياحة أو التجارة واللوجيستيات. ثانيا: الاعتماد بشكل كبير على الاقتراض الخارجى، لأن أزمة المديونية هى أكبر ما يخشاه العالم حتى من قبل انتشار الوباء، وذلك بعد أن بلغ حجم الديون أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالى العالمى. ثالثا: عدم توفير حزم إنقاذ واضحة للبنوك لتحسين مراكزها المالية فى فترة ما بعد انتهاء فترات السماح الكاشفة عن كثير من الأصول الرديئة، التى سرعان ما سوف تظهر بعد انتهاء تلك الفترات، خاصة أن البنوك مازالت تثبت الفوائد فى دفاترها وتمهل تحصيل بعضها، لكنها لم تواجه بعد ما سوف يحدث بعد انتهاء هذا الإمهال.
عموما فقد أجمع الخبراء على أن دالة الاستجابة إلى صدمات كورونا ليست خطية، وعليه فإن توقعات الوصول لعلاج ناجع أو مصل واسع الانتشار خلال النصف الثانى من 2021 لو أنها كانت متفائلة فإن الأثر السلبى لخسائر البنوك وخسائر الاقتصاد بصفة عامة سيكون أكبر والعكس صحيح حال انكشاف الغمة قبل هذا التاريخ إن شاء الله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved