على غلاف الإيكونوميست.. سقوط المهرج

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 13 يوليه 2022 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

توقفت طويلا أمام غلاف عدد الأسبوع الماضى من مجلة الإيكونوميست. لا أذكر أننى توقفت أمام غلاف مجلة وقورة وواسعة الانتشار لمدة طويلة مثل المدة التى قضيتها ثابت النظرة مثارا بالإعجاب أمام هذا الغلاف. تذكرت أيام بدء انبهارى بالسياسة والصحافة السياسية. كانت لى وقفاتى المطولة أمام «فرشات» الصحف الأشهر فى ذلك الحين. إن نسيت لن أنسى فرشة ميدان لاظوغلى، الفرشة التى كانت تخرج منها صحف الصباح ومجلات الأسبوع لتصطف على دواسة بيتنا. هناك كنت أجمع بعض ما فات على صاحب الفرشة جمعه وإرساله من مجلات ومطبوعات أحمله معى لقراءته فى الطريق إلى جامعة القاهرة أو إلى جاردن سيتى حيث مقر عملى المؤقت فى المكتبة الأجنبية. وبطبيعة الحال لن أنسى الفرشات الثلاث للصحف فى شارع فؤاد الأول بالزمالك عند تقاطعه بشارع البرازيل، ولم نكن تعودنا على النطق بالأسماء الجديدة لشوارع القاهرة. كانت هناك أيضا فى وسط البلد فرشة الصحف الشهيرة فى ميدان سليمان باشا على ناصية شارع قصر النيل وأخرى على ناصية شارع سليمان باشا للقادمين من ميدان الاسماعيلية أى التحرير فى التسمية الجديدة.
• • •
عن غير قصد تجاوزت هذه المقدمة الحد الذى قدرته لها قبل أن أشرع فى الكتابة عن تطورات تسبق نهاية أزمة دولية. أزمة بدأت محاطة بشكوك فى صدقية ونوايا كل أطرافها وتدهورت نحو أوضاع هزلية. كادت هذه الأوضاع تشمل العالم بأسره بما فيه شرقنا الأوسط أو الأدنى أو الأبعد حسب مسمياته المستجدة باستمرار، حتى صار الشرق الأوسط مضغة فى كل الأفواه ولازمة لكل قلم يكتب فى السياسة.
نحن أيضا كتبنا ولم يكن فى حسباننا أن ما نكتبه سيتحقق، أو لابد أن يتحقق. أصدقاء وزملاء كثيرون كتبوا ويكتبون لأن أمرا ما فى مجال اهتمامهم ينذر بتطور وخيم إن صدقت توقعاتهم وتحليلاتهم. أو كتبوا ويكتبون لأن أمرا ما فى مجال اهتمامهم يبشر بتطور طيب إن توافقت التوقعات والتحليلات مع ما تيسر لهم من معلومات حقيقية عادة ما تكون نادرة.
• • •
فى مطلع الأزمة العالمية الراهنة، أزمة أوكرانيا، كتبت وكتب آخرون يحذرون من أن العالم ينجر جرا نحو كارثة إذا لم يبطل فورا مفعولها. خرجت الكارثة من رحم فكرة سيئة أو نبتة شيطانية أو اجتهاد محفوف بالشر. كان الاحتمال كبيرا أن تتفاقم الفكرة فتصير مشروعا خبيثا للتدمير ويصير الاجتهاد استراتيجية وأحلافا وحلفاء وخصوما وأعداء وأسلحة تتدفق بدون حساب وأموال معونات، بعضها فى انتظار بيوت آمنة يستقر فيها إلى حين غير معلوم.
قبل انطلاق الأزمة شهد العالم أوضاعا عالمية كثيرة تتحرك فى اتجاه الفشل أو خيبات الأمل وبعضها انتهى بالسقوط، وفى حالات بعينها كان السقوط مدويا. العولمة التى كانت أساطيرها على كل لسان وإنجازاتها على كل قلم كنا شهودا على انطلاقاتها. رأيناها تنحسر. عشنا لنراها تتعرض لحملات شرسة ومنها الاتهام بأنها وراء نهضة الصين الاقتصادية ومحرك صعودها على طريق القمة الدولية.
ربما كانوا على حق، ولكن لم تكن نهضة الصين الاقتصادية سوى السبب غير المباشر فى انحدار المكانة الأمريكية. كانت عنصرا كاشفا بين عناصر كثيرة. بالتأكيد كانت بعيدة عن الأسباب المباشرة للأزمة المالية الأمريكية والعالمية فى عام 2008. وبالتأكيد أيضا كانت فى قلب الأسئلة الباحثة عن تفسير مقنع لسرعة انحدار أمريكا وهى ما تزال تحتل وضع القطب الأعظم فى نظام دولى أحادى القطبية. فشلت فى صنع سلام إقليمى فى الشرق الأوسط وتصرفت تصرف الدول الخارجة عن القانون وعن النضج بتمردها المعلن على قواعد نظام دولى هى تقوده وبتدخلها المخزى فى العراق وفشلها المتكرر، أو المتعمد، فى تحريك قضية فلسطين فى اتجاه يناسب تطلعات أغلبية أهل الشرق الأوسط. لم نعد نحن أهل القضية نهتم بهوية ساكن البيت الأبيض، فكلهم فى هذه القضية سواء فى القيمة وفى الدور وفى النتيجة.
• • •
يستمر الانحدار الأمريكى المطلق كما وصفه الرئيس ترامب أو النسبى كما اعتبره بعض علماء العلاقات الدولية. الانحدار مطلق بمعنى أن الخلل مصدره أمريكى وأنه تجذر بالفعل. أما النسبى فبمعنى مقارنته بصعود الصين المتوالى والاسترداد المتدرج من جانب روسيا لبعض ما فقدت من مكانة القطب الدولى ومعظم نفوذه. خلصنا من تجارب عديدة إلى أن الانحدار مستمر ومنها قمة الأمريكتين الفاشلة التى انعقدت فى لوس أنجيليس الأمريكية، ونخلص الآن من آخر مراحل التجربة الأوكرانية إلى أن أمريكا ليست فى أحسن حالاتها، بل وأن فرصها لاستعادة وضعها ليست عديدة أو مبشرة، على عكس ما تردده من أنها والغرب حققا إنجازات مهمة ومنها ما يلى:
أولا، أعادت للغرب وحدته، فالدول الأوروبية صارت تتنافس فيما بينها على تقديم السلاح لأوكرانيا لتستمر فى الحرب. ثانيا، دفعت دولا أكثر للانضمام لحلف الناتو بمحض اختيارها وليس تحت أى نوع من الابتزاز أو الاستفزاز. ثالثا، رغم كل القلق المحيط بالعلاقات بين الصين والغرب لم تتدخل الصين فى الأزمة عسكريا بشكل يهدد الموقف الغربى فى الأزمة. رابعا، لم تعترض دولة غربية اعتراضا حادا على قسوة العقوبات التى فرضتها واشنطن على روسيا والمتعاملين معها.
• • •
واقع الأمر يفرض إدراكا آخر لنتائج الأزمة مختلفا عن إدراك واشنطن ولندن أو ما تحاولان الزعم بأنه حقيقة مطلقة. يعرض هذا الواقع خلاصات ونتائج مختلفة منها على سبيل المثال:
أولا، الغرب ليس موحدا كما تود أمريكا أن تقنع العالم. صحيح أن الفعل الروسى البشع فى أوكرانيا أقنع الكثير من قيادات أوروبا بجدوى الاستعداد أمنيا لاحتمالات تكرار الفعل الروسى ضدها أو ضد دول ودويلات مجاورة، ولكن الصحيح أيضا هو أن أغلب هذه القيادات صارت تفكر فى أن أمن أوروبا وبخاصة الأمن الاقتصادى والعسكرى لا يجوز أن يستمر معتمدا على أمريكا خاصة وحلف الناتو عامة.
ثانيا، لم تثمر الحملة الأمريكية السياسية والإعلامية المستمرة ضد الصين منذ عهد ترامب ما هدفت إليه وبخاصة إشعال موجات عداء أو خصومات جديدة بين أوروبا والصين. بقيت دول أوروبا مقتنعة أن الصين ما تزال فى نظر المؤسسات الأوروبية منافسا اقتصاديا ولا تهدد بأى درجة كبيرة أو مباشرة أمن أوروبا.
ثالثا، تفاقمت إلى حدود قصوى أزمات الجوع بسبب النقص فى واردات الحبوب والزيوت من أوكرانيا وروسيا وبسبب رداءة قرار العقوبات. كان صحيحا ومنطقيا تحميل المسئولية لروسيا وكان ضروريا فى مرحلة تالية تحميل أمريكا جانبا منها خاصة بعد أن اتضح أنها لم تستعد بالدرجة المناسبة لاحتمالات تطور تداعيات اتساع دائرة القتال على حدود روسيا والحصار الاقتصادى فى البحر الأسود.
رابعا، لست أشك للحظة واحدة فى صحة الرأى السائد والقائل بأن أمريكا لم تحسب كعادتها النتائج غير المباشرة للحرب الاقتصادية التى فرضتها على الاتحاد الروسى والدول التى تتعاون معه. كثيرون يعتقدون، وأنا منهم، أن أمريكا نفسها وقد تولت قيادة فريق الناتو المناهض لروسيا لم تحسب حجم الأضرار التى ستعود عليها هى نفسها وعلى الدول ذات «الاقتصادات الحرجة» مثل ألمانيا ودول كثيرة فى العالم النامى من جراء تطبيق هذه العقوبات. ظهر واضحا، أو لعله انكشف كغيره من أمور تتعلق بهذه الحرب وتداعياتها المخططة سلفا، أن عوارا شديدا فى تشكيل وأداء مجموعة صنع القرار الخاص بالحرب تسبب فى أخطاء جسيمة يدفع الحلفاء ثمنها باهظا. لم يكن مفاجئا صدور تعليقات من محللين غربيين كبار تنعى سوء أداء وقلة حرفية وتخبط بعض المسئولين الغربيين ومنهم بوريس جونسون وعدد من كبار مساعدى الرئيس بايدن. أضف مسئولية الرئيس الأمريكى شخصيا وغياب نائب للرئيس أقدر من النائب الحالى على تحمل مصاعب إدارة أزمة على هذه الدرجة من الحدة.
خامسا، الآن وبعد كل ما تعرض له العالم من خسائر وهزات يقولون فى دوائر الاتحاد الأوروبى أن الطريق لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبى ليست ممهدة بل شاقة وصعبة لسبب بسيط وخطير معا، هو أن النظام الأوكرانى فاسد إلى حدود رهيبة تكاد تستعصى على أى جهود سياسية تبذل فى هذا الصدد، وليس غائبا عن ذاكرتنا ما كان يجهر به علنا وسرا الرئيس دونالد ترامب عن فساد قادة كييف والمتعاونين معهم من ذوى الصلة بقيادات بعينها فى الحزب الديموقراطى الأمريكى.
سئلت فى الأسابيع الأخيرة أكثر من مرة عن شعورى تجاه هذا الفشل المركب وتجاه أداء تنقصه الحكمة التى لابد تراكمت فى نخب السياسة الغربية. لم أجد إجابة شافية واحدة تعبر عن حجم الغضب فى نفسى على قدر الكذب وأنواع التقافز والتهريج وهيمنة الهزل الذى تسرب إلى الخطاب السياسى الغربى خلال حملة الغزو الروسى لأوكرانيا، وعلى قصص بطولة جنود أوكرانيين مختلطة للأسف بقصص ميلشيات مدفوعة الأجر جاءت لتتحارب فيما بينها على هذه الأرض، أرض أوكرانيا.
• • •
فى النهاية وعلى رصيف شارع من أهم شوارع القاهرة وقفت حزينا أمام غلاف آخر عدد من أعداد الإيكونوميست، غلاف تزينه أو تقبحه صورة بوريس جونسون يتقافز فرحا مهللا ومزدانا بعلم إمبراطورية بريطانيا العظمى وتحت عنوان رائع الصياغة، بالغ الدلالة؛ اختاره المحررون لا لعدد بذاته ولكن لحقبة كاملة من هيمنة الغرب.. اسمحوا لى باستعارته بتصرف، سقوط التهريج والمهرج، عنوانا لهذا المقال الذى شرفت بكتابته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved