الخبيئة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 13 أغسطس 2021 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

عثرت على خبيئةٍ ثمينة. مجموعة مِن بطاقات المُعايدة القديمة؛ مَشدودة إلى بعضها البعض برباطٍ باهت ومعقود بإحكام. فتحتها فضولًا فإذا بها تعود إلى ستينيات القرن الماضي وبينها ما يزيد عمره على هذا بقليل. تحمل البطاقاتُ مناظرَ طبيعية متنوعة، آثارا معروفة، وطيورا وحيوانات. معظمها جاء من محافظاتٍ مصرية شتّى، وبعضها مُرسَل من دول عربية، وعلى وجه التحديد من العراق وسوريا، وفيها ما قدم رأسًا من فلسطين.
***
مصدر البطاقاتِ محصور تقريبًا في العائلة مُترامية الأفراد، أما المناسبات فمتنوعة؛ عيد فطر سعيد، عيد أضحى مُبارك، ترقية مَيمونة وجهد مُثاب، افتقدناكم وقد أكلنا الفسيخ والملوحة ولَوّنا البيض، سنةٌ جديدة عامرةٌ بالمسرَّات. الطباعةُ فاخرةٌ، والورقُ المُقوى سميكٌ بما لا يُعهَد في الوقت الراهن، والألوانُ زاهيةٌ لا تزال، أما الكلماتُ فتشي ولا جدال بحالِ كاتبها؛ وقتٌ وافر، بالٌ رائقٌ لا تقضُّه عجلةٌ أو تؤرقه ضغوطٌ، عنايةٌ مَبذولةٌ في استخدامِ اللغة وتنميقِ الخطّ، يُضاف إليها حرصٌ على تدوين التاريخ والمكان. علامات تعكس رغبةً أكيدةً في استبقاءِ روابطِ الودِّ مع الآخرين، وتؤكِّد توقًا إلى استقاءِ أخبارهم.
***
بعضُ البطاقاتِ مَصحوبٌ برسائلَ غرامية لا يجوز إفشاؤها رغم مُضيّ الزمن، وبطاقاتٌ أخرى تقتصر الرسائلُ المُرفقةُ بها على حكاياتٍ بريئة؛ خطَّها أصدقاءُ طفولةٍ وجيرة، أو أبناءُ وبناتُ خلَّان وأولاد عمومة. تحمل الحكاياتُ في مُجملِها أخبارَ الدراسةِ وربما الوظيفةِ، وقد تصِفُ الحياةَ في مُحافظةٍ جديدةٍ؛ وكأن الوافد إليها قد ارتحل آلاف الأميالِ، يصِف مثل السائحين ما يرى في مغامرته وما يختبر، ويستعين على غُربته بالتواصل مع العائلة الكبيرة.
***
تراجع استخدامُ بطاقاتِ المُعايدة فيما أظن، وتقلَّص حجمُها فصارت أصغر مِن أصابعِ اليد، كذلك رقَّ الورقُ المُستخدَم في صناعتها وبات خفيفًا ينثني ويتجعَّد ثم يتمزَّق بسهولة، وقد ظهرت بطاقاتٌ أخرى فاخرة، كبيرة الحجمِ، بارزة الرسوم، مُعقَّدة التكوين؛ تحملُ أكثر مِن ورقةٍ، لكن ثمنها يُعضِل الغالبيةَ العظمى مِن الناسِ. مُعظم البطاقات إن لم يكُن كلها؛ وارد الصين، نسخ فاقدةٌ للروح، تنتج الماكيناتُ السريعةُ ملايين منها، وتشحنها إلينا مُحمَّلة برائحة الأحبار الحديثةِ ومُشتقات النفط الرخيصةِ، فنكتفي بالنصِّ المطبوع داخلها؛ مُعايدة أو تهنئة أو مُشاطَرة قلبية عابرة، نذيلها بتوقيعٍ سريع وربما ننسى؛ فتفقد ما تبقى لها مِن خُصوصية.
***
لا شكَّ أن المعايداتِ الإلكترونية والرسائل التي تصل عبر وسائط الإنترنت وتطبيقاته؛ قد قضت إلى حدٍ بعيد على فكرة البطاقةِ الورقية، فالأولى تجد طريقَها في لمح البصر إلى الهدفِ، لا تستهلكُ وقتًا ولا تستلزم جهدًا ولا يشارك في توصيلها أحد، بينما الثانية تستغرق تفكيرًا وتحتاج قلمًا، ولا تملك رفاهيةَ إضافةِ وجهٍ ضاحكٍ أو قلبٍ مِن تلقاء نفسها، كما لا يُمكن مَحو ما خُطَّ بها دون خسائر.
***
بعضُ البطاقاتِ التي سمحت لنفسي بقراءتها حملت أشعارًا؛ الشوقياتُ حاضرةٌ وبعضٌ من أبو ماضي، وفيها أيضًا ما لم أتعرف على قارضه، وربما كان مُرسِل البطاقَة نفسه قد قرر أن يجرِّب موهبته. علاماتُ الضبطِ تزين الأبيات المشهورةَ، وكاتبها للحقّ مِشغوف بها؛ يتبدى شغفُه في رسومٍ ومُنمنمات زيَّن بها الجوانب. العجيبُ أن البطاقاتِ قد احتفظت خلال نصف قرن أو يزيد؛ برائحةٍ مُحبَّبة أليفة، خليط من عبق الزمن المار، والورق المُتقادم، وبقايا من عطر حقيبةِ اليد التي احتضنت الخبيئةَ، وحفظتها سليمةً مُعافاة إلى أن عثرت عليها.
***
تلقيت في طفولتي بطاقاتٍ كثيرة، أغلبها في أعياد الميلاد ومناسبات التفوُّق الدراسيّ؛ قارنت الخطوطَ والكلماتِ فكانت المسافةُ شاسعة. بطاقاتي عصيةٌ على القراءة لرداءةِ الخطوط، أسلوبُها لا يحظى بالعنايةِ الواجبةِ بل مَحض كلمات مُكررة مَحفوظة، أوراقُها فاقدة المسام لا تحمل أيَّ رائحة خاصة، أما ملمسها فزلقٌ يشي بالسرعةِ والسهولة. تبقى مع ذلك في حكم الذكرى العزيزة، وأمنِّي نفسي أن تصبح بمرورِ الوقت مَجلَبةً للحنين؛ مثلها مثل الخبيئة الثمينة التي أعدتها لمكانها مُمتنة، شاكرة لأصحابها اهتمامًا ورعاية؛ قلَّما توافرا الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved