القارة الصفراء في قبضة «شبكة الخيزران» الصينية

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الجمعة 13 أغسطس 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع 180 مقالا للكاتب أمين قمورية، يقول فيه إن الجاليات الصينية فى الخارج، هى حصان طروادة بكين فى جنوب شرق آسيا.. وسلاحها فى حربها الناعمة لمد نفوذها الاستراتيجى بعنوان «مبادرة الحزام والطريق»، موضحا كيف تعمل هذه الجاليات وما هو سر قوتها.. نعرض منه ما يلى.

حينما حطت أقدام المستعمرين الأوروبيين فى جنوب شرق آسيا، فوجئوا بأن الصينيين سبقوهم إلى هناك وحقّقوا فيها نجاحات تجارية واقتصادية هائلة. وفى عام 1621 كتب الرحالة البريطانى توماس هيربرت أن الصينيين فى تلك المناطق يذكرونه بـ«يهود أوروبا» لهيمنتهم على مفاصل الاقتصاد فى تلك الأصقاع برغم قلة أعدادهم نسبيا مقارنة بعدد السكان الأصليين، فهم تجار الجملة والحرفيون ومحتكرو المهن التى لا يجيدها غيرهم. عندما وصل هؤلاء إلى تلك الأراضى هربا من بلادهم التى كانت تعانى من الاضطرابات والحروب والاحتلالات والثورات والفقر والجوع، كانوا من الطبقات المعدمة، لكنهم باتوا اليوم الأعلى دخلا وتعليما فى الدول المضيفة وبينهم أغنى 20 مليارديرا فى آسيا كلها.
وعلى عكس المهاجرين العرب القدامى، الذين اختلطوا بالسكان المحليين وتزوجوا منهم وصاهروهم، فإن علاقة المهاجرين الصينيين بالمجتمعات الآسيوية المجاورة تشبه علاقة الزيت بالماء؛ لا يمتزج به ولا يذوب فيه، بل يكَوّن طبقة أعلى منه؛ إذ نادرا ما تحدث حالات زواج بينهم وبين السكان الأصليين. وأيا كان الحاكم فى بكين، وأيا كان موقفهم السياسى منه، يبقى ولاؤهم الأول لوطنهم الأم.
***
فى البداية، عملت أعداد كبيرة من المهاجرين الصينيين فى مزارع المطاط ومناجم القصدير فى إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، بينما أنشأ آخرون متاجر صغيرة لتوفير لقمة العيش لأنفسهم. وشكلوا أحياء صينية لدعم الذات وتعزيز مصالحهم التجارية. ومع نمو المجتمعات الصينية وتطورها فى جنوب شرق آسيا، بدأ التجار الصينيون فى تطوير شبكات أعمال متقنة للنمو والبقاء مهمتها توفير الموارد لتراكم رأس المال ومعلومات التسويق وتوزيع السلع والخدمات بين مجتمعات الأعمال الصينية فى الداخل والخارج. وعادة ما تكون الشركات الصينية فى الخارج مملوكة لعائلة وتدار من خلال بيروقراطية مركزية أبوية. وتكمن قوة الشركة العائلية فى مرونتها فى اتخاذ القرار وتفانى وولاء القوى العاملة لديها وتكاليفها المنخفضة.
وبرغم الصعوبات الهائلة التى واجهوها، إلا أن العديد من رواد الأعمال والمستثمرين الصينيين الناشئين نجحوا من خلال التوفير والذكاء فى الأعمال التجارية وفطنة الاستثمار والانضباط والضمير، فى بناء تكتلات تجارية عملاقة. ومع بداية العولمة فى القرن الحادى والعشرين، عمل العديد من رواد الأعمال الصينيين فى الخارج على عولمة عملياتهم المحلية وعرضوا أنفسهم كمنافس عالمى فى صناعات تجارية متنوعة مثل الخدمات المالية والعقارية وتصنيع الملابس وسلاسل الفنادق. من تايلاند إلى ميانمار إلى إندونيسيا، تشرف عائلات الأعمال الصينية فى الخارج على إمبراطوريات تجارية بمليارات الدولارات تمتد من شنجهاى إلى كوالالمبور إلى جاكرتا. وسجل الكثيرون من هؤلاء قصص ثراء خيالية مثل صانع الصفقات الماليزى الصينى روبرت كوك، الملياردير الإندونيسى الصينى لييم سيوى ليون، ورجل الأعمال فى هونغ كونغ لى كا شينغ. وبنى جميع هؤلاء ثروتهم من أعمال بسيطة وغير ملهمة مثل متجر الزاوية لبيع السكر فى ماليزيا، ومتجر المعكرونة فى القرية فى إندونيسيا، ومصانع الزهور البلاستيكية فى هونغ كونغ، أو كانوا باعة متجولين سرعان ما تعمقوا فى العقارات ثم أعادوا استثمار مكاسبهم فى أى عمل اعتبروه مربحا لهم.
فى ماليزيا الحالية مثلا، تدفق المهاجرون القادمون من جنوب الصين خلال الاستعمار الإنجليزى، للعمل فى مناجم القصدير، وبمرور الزمن تركزت معظم الثروات فى يدهم وبات السكان الأصليون المسلمون من أبناء العرق المالاوى أنفسهم فى فقر مدقع، وهؤلاء كانوا السبب الرئيسى فى دفع نواب الغالبية المالاوية المسلمة فى البرلمان الماليزى إلى التصويت عام 1965 على طرد ولاية سنغافورة من الاتحاد الماليزى كونها تحتضن غالبية صينية مهيمنة على الأعمال وتشهد مواجهات عرقية بين هؤلاء والمسلمين، وذلك خشية انتقال عدوى الاضطرابات العرقية والطائفية إلى باقى الولايات. حينها خرج الزعيم السنغافورى الشهير لى كوان يو، باكيا على شاشات التلفزيون بسبب قرار البرلمان طرد ولايته. لكن سنغافورة باتت دولة مستقلة ذات غالبية صينية. وانتقلت فى أقل من عقدين، بفعل نشاط الجالية الصينية، من جيب صغير فقير وموبوء، إلى أسطورة اقتصادية صاحبة الرقم القياسى فى النمو والتطور التكنولوجى وها هى تحتل حاليا مركزا عالميا مرموقا كسوق مالية وتجارية مهمة، كما أنها تملك أكبر المرافئ والمطارات فى العالم.
ويقدر عدد الجاليات الصينية فى جنوب شرق آسيا بخمسين مليون نسمة. وبرغم أنهم لا يشكلون سوى 10 فى المائة من إجمالى السكان إلا أنهم يشكلون أقلية سوقية قوية تسيطر على قطاعات بأكملها وتهيمن على ثلثى تجارة التجزئة فى المنطقة وتمتلك ثمانين فى المائة من جميع الشركات المدرجة فى البورصة من خلال رسملة سوق الأوراق المالية. وبات 86 فى المائة من المليارديرات فى جنوب شرق آسيا، من أصل صينى.. فالجاليات الصينية فى ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وتايلاند تملك زمام المبادرة وتتركز فى أيديها أسباب الازدهار الاقتصادى، ففى تايلاند مثلا يمتلك الصينيون 90 فى المائة من الشركات الناجحة، وفى الفلبين يسيطرون على أربعة أخماس تجارة الجملة. وفى إندونيسيا (حيث لا يشكلون سوى 5 فى المائة من السكان) يمتلكون 75 فى المائة من المؤسسات الاقتصادية. وفى ماليزيا نفسها يديرون مجمل الصناعات التكنولوجية ويمتلكون ستة أضعاف ما يمتلكه الماليزيون من الشركات الناجحة.
ولا يقتصر نجاح الشتات الصينى على آسيا، بل يمتد ليشمل أوروبا والأمريكيتين وأفريقيا وأوقيانيا، فجميع المدن الكبرى فى العالم لا تخلو من «مدن صينية» مصغرة تضم جاليات نشطة ورجال أعمال يحلقون فى مجالاتهم.
***
ومنذ مطلع القرن الحادى والعشرين، أصبح جنوب شرق آسيا ركيزة مهمة للاقتصاد الصينى فى الخارج، وبنت فيه بكين ما بات يعرف بـ«شبكة الخيزران» التى تشبك اقتصاديا ما بين البر الرئيسى للصين وبين الجاليات الصينية فى الخارج فيصير أحدها مكملا للآخر يتفاعل معه ويتبادلان إمداد بعضهما البعض بوسائل القوة والاستمرار والنمو. وعملت «شبكة الخيزران» كشكل مميز من أشكال التنظيم الاقتصادى، حيث توسعت تدريجيًا مجموعات من رجال الأعمال الصينيين والتجار والمستثمرين والممولين والشركات العائلية، بالإضافة إلى شبكات الأعمال المتماسكة بشكل وثيق وأصبحت تهيمن على اقتصاد جنوب شرق آسيا. وباتت الشركات المملوكة من الصينيين المغتربين قوة اقتصادية رئيسية ومهيمنة على قطاعات الأعمال الخاصة فى كل دولة فى جنوب شرق آسيا اليوم.

ويتركز الجزء الاكبر من النشاط التجارى لـ«شبكة الخيزران» فى المدن الكبرى، مثل جاكرتا، سنغافورة، بانكوك، كوالالمبور، هو تشى منه ومانيلا. وتتحكم هذه بثروة مجتمعة تقدر بتريليونات الدولارات. ويمثل الصينيون فى الخارج أيضًا 80 فى المائة من الاستثمارات المباشرة فى البر الرئيسى للصين. فقد أنشأت شركات «شبكة الخيزران» عشرات الآلاف من المشاريع المشتركة، متأثرة بالصلات العرقية والثقافية واللغوية المشتركة والقائمة. وفى إطار سعيها لتقليل اعتمادها على سندات الخزانة الأمريكية، حولت الحكومة الصينية من خلال مؤسساتها المملوكة للدولة تركيزها إلى الاستثمارات الأجنبية. جعلت الحمائية فى الولايات المتحدة من الصعب على الشركات الصينية الحصول على الأصول الأمريكية، مما عزّز دور«شبكة الخيزران» كواحدة من المتلقين الرئيسيين للاستثمارات الصينية.
وقد عززت بكين نفوذها فى منطقة جنوب شرق آسيا فى العام الماضى، عبر تتويج مساعيها الدبلوماسية بتوقيع أكبر اتفاق تجارى فى العالم، هو اتفاق «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» الذى ضم عشر دول فى جنوب شرق آسيا أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا، فى غياب الولايات المتحدة الأمر الذى اعتبر انتكاسة سياسية لواشنطن. وتساهم الدول المنضوية فى الاتفاقية بنحو 30 فى المائة من إجمالى الناتج الداخلى العالمى. ومن شأن اتفاق كهذا أن يمنح الصين مجالا أوسع لصوغ قواعد التجارة فى المنطقة، ويرسخ طموحاتها الجيوسياسية الإقليمية الأوسع حيال «مبادرة الحزام والطريق».
***
لكن هذه القوة الاقتصادية التى يمتلكها الصينيون فى الخارج ولدت مرارة لدى نظرائهم فى جنوب شرق آسيا الذين يشعرون أنهم لا يستطيعون منافسة الشركات الصينية فى مجتمعات السوق الحرة الرأسمالية، وهذا الأمر يعزّز التفاوت الهائل فى الثروة ويكرس الفقر المدقع بين السكان الأصليين فى جنوب شرق آسيا، فضلا عن مشاعر الاستياء وعدم الثقة والمشاعر المعادية للصين، وهذا ما تسعى الولايات المتحدة والهند إلى استغلاله.
بحسب قائمة أثرياء هورون العالمية لعام 2021، فإن الأثرياء الصينيين فى الخارج يشكلون قوة ضاربة فى العديد من بلدان العالم، لا سيما فى جنوب شرق آسيا «القارة الصفراء».
ووفقا للقائمة، فإن المليارديرات الصينيين فى سنغافورة يبلغ عددهم 23 من أصل 45 مليارديرا، أى يشكلون حوالى 65.7 فى المائة من مليارديرات سنغافورة.
ويوجد 9 من المليارديرات الصينيين فى الفلبين من أصل 20 مليارديرا، أى يشكلون 45 فى المائة من مليارديرات الفلبين، وتنخفض النسبة إلى حوالى 22 فى المائة فى إندونيسيا، حيث يوجد 7 مليارديرات صينيين من بين 32 مليارديرا فى هذه الدولة الآسيوية.
فى تايلاند، هناك 52 مليارديرا، بينهم 5 مليارديرات من الصين، أى بما يعادل 9.6 فى المائة، بينما يستحوذ الصينيون على 30 فى المائة (3 مليارديرات) من أصل 10 مليارديرات فى ماليزيا.
كما ينتمى العديد من الصينيين فى الخارج إلى أغنى العائلات فى آسيا، منها عائلة «سى» عاشر أغنى عائلة فى آسيا تعيش فى الفلبين، وتعمل فى بيع المواد الغذائية ومتاجر الأحذية والخدمات المصرفية والعقارية، وهى تدير اليوم مصرف Banco de Oro ومتاجر SM Supermarkets وSM.
ولا يشكل الصينيون الأثرياء فى الخارج سوى مجموعة ضئيلة من بين أولئك الذين يقيمون فى الصين ويبلغ عددهم ما يربو على ألف ملياردير، مقارنة بـ 696 مليارديرا فى الولايات المتحدة بينهم 3 فى المائة من الصينيين.

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved