بلبل فلسطين

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 13 أغسطس 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

كانت موسيقى نشيد «موطنى» تتردد فى أذنى وأنا أتابع أخبار الهجوم الإسرائيلى الأخير على غزة، الذى أسفر عن قتل 48 فلسطينيا بينهم 16 طفلا و4 سيدات وإصابة 360 آخرين، بحسب بيان وزارة الصحة هناك. رغم أنه لم يعد رسميا النشيد الوطنى الفلسطينى، إذ اعتمدت مكانه اللجنة التنفيذية لمنظمة فتح منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت نشيد «فدائى»، من تأليف الشاعر سعيد المزين (الملقب بفتى الثورة الفلسطينية) ولحن الموسيقى المصرى على إسماعيل، إلا أن قصيدة «موطنى» القومية العربية التى كتبها إبراهيم طوقان سنة 1934 ولحنها اللبنانى محمد فليفل ظلت نشيدا وطنيا غير رسمى فى فلسطين، بل سافرت إلى العراق وسوريا مع اندلاع الحروب واشتداد الأزمات فى دول الجوار لتكون لسان حال هذه الشعوب.
رقة وهدوء اللحن والكلمات، دون تكلف، جعلته عابرا للحدود وسهلت انتشاره، إذ يبدأ الشاعر قوله ببساطة: «موطنى موطنى، الجلال والجمال، والسناء والبهاء، فى رباك فى رباك»، ثم يتساءل بعدها بقليل مثله مثل الكثيرين: «هل أراك هل أراك، سالما منعما، وغانما مكرما، هل أراك فى علاك تبلغ السماك، موطنى موطنى»... طبعا صارت كل هذه الأمنيات بعيدة المنال، وكلما يزداد تحقيقها صعوبة مع الوقت، كلما ردد الناس النشيد وظهرت نسخ معدلة منه يؤديها بتوزيعات حديثة على البيانو نجوم برامج مسابقات الغناء وآخرون مثل السورية فايا يونان واللبنانيتين إليسا وكريستينا صوايا. أما فى العراق فقد اُستخدم رسميا كنشيد وطنى بعد الإطاحة بصدام حسين سنة 2003 ليحل محل نشيد «أرض الفراتين» الذى كان معتمدا فى عهد الرئيس الراحل، ومن حين لآخر تكون هناك محاولات لاستبدال «موطنى» بكلمات شعراء عراقيين ويندلع الجدل فى مجلس النواب وتطفو على السطح عدم قدرتهم على الاتفاق حول شىء بما فى ذلك النشيد الوطنى.
• • •
قصة إبراهيم طوقان الذى يطلق عليه البعض «بلبل فلسطين» لها بعد ملحمى. شاعر مرهف، ضعيف البنيان معتل الصحة، مات مبكرا وهو فى السادسة والثلاثين من عمره بعد صراع مع المرض. لم ينشر أعماله فى ديوان وهو حى يرزق، بل تم تجميعها فى كتاب عام 1955، يضم 77 قصيدة، بعد مرور أربعة عشر عاما على وفاته، ثم صدر ديوان شعرى آخر يحتوى على 36 قصيدة إضافية، ويبلغ عدد القصائد فى شتى الكتب المطبوعة بعد هذين الإصدارين 158 قصيدة ومقطوعة. أعماله ساهمت فى إلهاب المشاعر ضد الاستعمار خاصة وأن بلاده كانت وقتها تحت الانتداب البريطانى وأن الثورة الفلسطينية كانت فى أوجها بين 1929 و1936، لكن فى ظنى أن ما جعله حاضرا فى الوجدان هو صدق مواقفه، فقد كان يؤكد على أنه شاعر وطن وأن انتماءه ليس لحزب أو زعيم، بل حافظ على بوصلة قضيته وعلى روح الجماعة، وهاجم السماسرة والأحزاب وما جرته من مآسٍ على فلسطين، قائلا: «إن قلبى لبلادى، لا لحزب أو زعيم، غايتى خدمة قومى، بشقائى أو نعيمى». ربما هذا هو ما شعر به الناس الذين يرون أن الوطن أكبر من كل هؤلاء وراحوا يرددون النشيد، هذا إضافة إلى أنه كان أول من تعرض لشخصية الفدائى الفلسطينى بأبيات قال فيها: «لا تسل عن سلامته.. روحه فوق راحته».
قرأ واحدة من أهم قصائده «الثلاثاء الحمراء» عام 1930، فى مظاهرة جرت فى نابلس، مسقط رأسه، استنكارا لإعدام ثلاثة من الثوار بسجن عكا (محمد جموم وعطا الزير وفؤاد حجازى)، مسجلا بطولاتهم ومعاناتهم. أما قصيدة «موطنى»، فقد كتبها فى بيروت حيث درس بالجامعة الأمريكية ومكث فيها ست سنوات إلى أن نال شهادته فى الآداب. كانت هذه الفترة بالنسبة له مرحلة حرية وانفتاح وتطور، تعرف خلالها على زمرة من المفكرين والكتاب مثل وجيه البارودى وحافظ جميل وعمر فروخ وكونوا معا حلقة أدبية بعنوان «دار الندوة»، كما توطدت علاقته بالشاعر بشارة الخورى، الملقب بالأخطل الصغير، وكان بالطبع لكل ذلك تأثيره على لغته الشعرية وثقافته، وهو الذى تعلم من بلاغة القرآن منذ الصغر وانفعل بأزجال جده وبحكايات عنترة وأبى زيد الهلالى وسيف بن ذى يزن التى كان يرويها له ولإخوته.
• • •
ابن نابلس الساخر الذى تتلمذ وهو طالب فى القدس على يد الأستاذ الكبير نخلة زريق وشرب منه حب اللغة العربية والشعر القديم كان أيضا يتقن عدة لغات أجنبية كالإنجليزية والتركية والإسبانية والألمانية، فجاءت لغته الشعرية بين الفصيحة التراثية وتلك القريبة من العامية. حين كان يتبادل الرسائل مع أخته الصغرى، فدوى طوقان، وهو معلمها ودليلها فى الشعر والأدب، كان يكتب بالفصحى ثم يخاطبها بين أقواس بلهجة أهل نابلس، وفى النهاية يوقع باسمه الذى تناديه به «برهوم».
لطف ورهف نشعر بهما فى كلماته ونحن نتابع مسيرته من بيروت إلى القاهرة حيث حاول العمل بالصحافة، ثم إلى نابلس والقدس مجددا حين كان مسموح بالعودة، وهناك عمل كمدير للبرامج فى إذاعة «هنا القدس» عام 1936، لكنه لم يبق طويلا، إذ تم فصله بتهمة التحريض على سلطات الانتداب البريطانى ولدوره فى تغطية المجازر التى ارتكبتها العصابات الصهيونية. رحل بعدها إلى بغداد والتحق بوزارة المعارف كمدرس بدار المعلمين العليا إلى أن غالبه المرض وعاد سريعا إلى موطنه ليموت بالمستشفى الفرنسى بالقدس عام 1941، ويبقى بيننا بكلماته مثل الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى الذى أصابه المرض وتوفى أيضا فى سن صغيرة وانتمى إلى عائلة ميسورة أتاحت له مستوى معينا من التعليم والثقافة.
تذكرت هذا الأخير لأننا نردد أبياته كلما أردنا التأكيد على إرادة الشعوب فى الحياة والحرية، مثلما يحدث بشكل تلقائى مع نشيد «موطنى»، رغم مرور السنوات، إذ يظل السؤال باقيا ومشروعا: «هل أراك هل أراك، سالما منعما، وغانما مكرما، هل أراك فى علاك تبلغ السماك، موطنى موطنى»، ثم نستيقظ على مزيد من القهر وانتظار الموت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved