في الانتباه إلى الثقافة الشعبية
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 أغسطس 2024 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
مما يؤسف له أن مجموعة هائلة من مجتمعات العالم وشعوبه ما كانت تعير اهتماما ــ أو قل انتباها ــ لثقافاتها الشعبية، ولما تحويه هذه من كنوز جمالية ورمزية، قبل أن ينبهها الغربيون إلى ذلك من طريق إقبالهم على منتوجات تلك الثقافات وزيادة الطلب عليها. بدأ ذلك فى الحقبة الكولونيالية، لكنه زاد بعدها أكثر مما كان قبلاً حين بدأ الأوروبيون يتدفقون على تلك البلدان باحثين عن النفائس الثقافيّة الشعبية فيها: فى الأسواق التقليدية والبازارات؛ وفى مهرجانات الفنون الشعبية (الفولكلور). ثم لم يلبث قسم من المتكونين فى مجالات الفنون التشكيلية، والسينمائية، والمسرحية، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، فى المعاهد المتخصصة والجامعات فى أوروبا وأمريكا الشمالية والاتحاد السوڤييتى (سابقا)، أن شرعوا فى العودة إلى أوطانهم وفى تنمية الاهتمام بتراثهم الثقافى الشعبى فى دوائرهم الثقافية والأكاديمية قبل أن تنضم المؤسسات الرسمية إلى ركب المهتمين به، ولكن هذه المرة ليس من أجل إنصاف الثقافة الشعبية وتمكينها من موارد التطور، بل لاكتشاف هذه المؤسسات الفوائد المتولدة من تسخير تلك الثقافة فى الاقتصاد السياحى!.
إذا تركنا جانبا الخلفيات المادية والربحية للسياسات الرسمية تجاه الثقافة الشعبية وأغراض تلك السياسات من الاهتمام بها، لدى قسم غالب من دول العالم، فإن دولا أخرى سلكت مسلكا مختلفا واعتنت بأمرها لأهداف لا علاقة لها بالربح المادى، وإنما لاتصال ذلك الاعتناء باستراتيجياتٍ للبناء الوطنى كان فى جملتها السعى إلى تحقيق هدف مركزى استقلالى: بناء شخصية وطنية مستقلة.
نحن، هنا، إزاء تجارب دول وحركات وطنية ابتغت، منذ بدايات الاستقلال السياسى، تعظيم الشعور بالهوية والذاكرة التاريخية وبعراقة الانتماء، وكان ذلك ــ أحيانا ــ ردا مباشرا منها على سياسات الاستعمار الذاهبة إلى محو الشخصية الوطنية والقومية وتبديدها؛ ولكنه أتى ــ فى أحايين أخرى ــ يعبر عن إرادة تعزيز الاستقلال الوطنى من طريق ترسيخ الشعور الجمعى بالهوية والانتماء الوطنى. هكذا تحولت الثقافة الشعبية من مورد ثقافى ــ أو مورد مادى ــ إلى مورد سياسى ومورد وطنى يدخُل فى تكوين الأوطان والهويات.
على أن التأخر فى الانتباه إلى الثقافة الشعبية والاعتناء بها، فى الفكر وفى السياسات، يمكن أن يرد كذلك إلى سبب آخر غير التقصير أو الجهل؛ إلى العلاقة المعيوشة به من طرف شعوب تلك المجتمعات. بيان ذلك أن من يعيش ثقافة ما: يُنتجها ويستهلكها وتدخل فى نسيج يومياته، لا يملك أن ينظر إليها بما هى كيان يحتاج منه إلى انتباهٍ واهتمام؛ إذ هى جزء منه محايث ينتمى إليه وليس منفصلا عنه فى المكان أو فى الزمان. كان التقليد، حينها، هو النظام السائد وما كانت الثقافة الشعبية لتبدو شذوذا فى ذلك النظام، أو حالة متجافية مع قيمه.
غير أن الأمر اختلف حين بدأ التحديث المادى والثقافى ينفث نتائجه ويفرض قيمه على النظام الاجتماعى، وخاصة حين ترجحت كفته على كفة التقليد بقوة أحكام التطور والتراكم. بدا، عند ذلك، وكأن تلك الثقافة الشعبية تنتمى إلى التقليد، وإلى الماضى أو أنها تنفصل عنا أو توشك على ذلك. وإذا كان قد وجد من نظر إليها بسلبية شديدة، بدعوى أنها ترمز إلى الماضى وأنها منتوج من منتوجات التقليد، وبالغ فى ممارسة صور من الاستعلاء الثقافى عليها فى غمرة اندفاعته إلى تبجيل ما هو حديث والتبشير به، فقد وجد ــ فى المقابل ــ من صحح هذه النظرة السلبية إليها بعد كشف بطلانها، ومن أعاد إليها الاعتبار بما هى لحظة من التعبير الشفاف عن البيئة الأنثروبولوجية العريضة للشعب وعن نظام القيم لديه.
مع ذلك، مع تزايد معدل مصالحة الشعوب والنخب مع تراثات شعوبها الثقافية، وتزايد اهتمامات أدبائها وباحثيها ومؤسساتها الثقافيّة بها، ينبغى أن لا يصرف ذلك انتباهنا عن مضاعفات سلبية قد يقع فيها الاحتفال الشديد بالثقافة الشعبية فيستجر بذلك نتائج بالغة السوء فى الميدان الثقافى. هذا أمر وارد حدوث خاصة حينما يميل ذلك الاحتفال الشديد إلى التعبير عن نفسه فى أشكال مختلفة من التبجيل الذاتى الذى تتغذى منه النزعات النرجسية فى أى ثقافة.
ولقد يكون من ثمرات ذلك ترسيخ نزعة من الحنين إلى الماضى الذى أنجب تلك الثقافة الشعبية؛ وهو حنين تغذيه تجارات للقديم مربحة ونافقة فى عصر التحديث، ورغبة جامحة فى الاختلاف عن السائد فى المحيط (التحديث). ومع أننا لا ننكرر مشروعية أى نوستالجيا إلى الماضى، لأنها سلوك متوازن يضمر مصالحة معه واعترافا نبيلا به، إلا أننا نخشى من أن تقود أزمات التحديث، فى مجتمعات اليوم، إلى ارتداد عكسى وعنيف عنه يتخذ شكل انكفاء إلى الماضى وقيمه ورموزه، واللواذ به والبحث فيه عما يحقق توازنا نفسيا عصفت به أوضاع الحاضر.
نقول ذلك لأننا بتنا نلحظ كيف أصبح الاحتفاء بالثقافة الشعبية، فى بعض البيئات الثقافية، يكتسى طابعا هجوميا وعدوانيا ضد الثقافة العالمة وقيم العقل والعقلانية؛ وهو، قطعا، منعطف سيئ فى النظر إلى ثقافة الشعب وثقافة النخب على السواء!.
عبد الإله بلقزيز
جريدة الخليج الإماراتية