حديث الفساد .. والقانون

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 13 سبتمبر 2015 - 8:47 م بتوقيت القاهرة

هل يكفي خبر إلقاء القبض على الوزير لنطمئن إلى أننا «مؤسسيا» قد اتخذنا الخطوات اللازمة «الكافية» لمكافحة «منهجية» للفساد؟ وهل يكفي الخبر «المبشر» لنطمئن إلى أن ثقافة الشفافية والمحاسبة قد حلت محل ما ألفناه من ثقافة حجب «وحصانة سيادية» توفر البيئة المثالية لنمو طبقة «الأوليجاركيا» التي تقتات تقليديا على النفوذ والسلطة .. والفساد؟

by: ANGEL BOLIGAN

 

ما مصير وقائع الفساد «الموثقة» التي تحدث عنها رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات قبل ما يقرب من العامين (!)

بعد أيام فقط من إلغاء ندوة عن «حول سبل مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية بالمؤسسات الحكومية المصرية» (بضغوط أمنية كما يقول خبر «الأهرام») تصدرت «المانشتات» وبرامج المساء التلفزيونية أخبار «دراما» إلقاء القبض على وزير الزراعة المستقيل بعد دقائق من مغادرته مبنى مجلس الوزراء. لا عاقل بوسعه أن يتجاهل الخبر الأول عند محاولة قراءة الخبر الثاني قراءة واقعية لا تخلو من المبالغة.

الندوة التي جرى إلغاؤها (رغم نفي الداخلية «الرسمي» المعتاد)،  كان من المقرر أن يشارك فيها المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، بالإضافة إلى الدكتور هاني سري الدين، والدكتور علي حلمي عميد كلية الحقوق السابق، وعدد من أساتذة القانون والشخصيات العامة، وذلك بغرض وضع مفهوم لسبل مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية بالمؤسسات الحكومية المصرية. وحسب الخبر الذي نشرته «الأهرام» فإن الضغوط التي مارسها الجهاز الأمني بهدف إلغاء الندوة لم تقتصر على منظميها فقط، بل امتدت كالعادة إلى إدارة االفندق الذي كان من المقرر انعقاد الندوة به.

حسب ما يقوله لنا الدستور، لا غيره فالجهاز المركزي للمحاسبات هو الذي «يتولى الرقابة على أموال الدولة، والأشخاص الاعتبارية العامة،… ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة، ومراجعة حساباتها الختامية.» (المادة ٢١٩)

وحسب ما تقوله لنا وقائع الأخبار، لا الاجتهادات فرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، إعمالا للمادة ٢١٧ من الدستور كشف في مؤتمر صحفي شهير عقده في ١٧ فبراير ٢٠١٤ (قبل ما يقرب من العامين) عن فساد مالي (يصل إلى ما يتجاوز الـ ٢٣ مليار جنيه) تورط فيه أعضاء من مؤسسات أمنية وجهات هامة وعليا في مصر… إلى آخر ما ورد في تفاصيل مذهلة أشار إلى بعضها رئيس الجهاز المستشار هشام جنينة في حوار مطول نشرته تلك الجريدة «الشروق» في ١٨و١٩ مارس ٢٠١٤.

والحاصل، والذي لا يصح لنا أن نتجاهله ونحن نتابع مانشتات «مصر بتنضف» أن إعلان المسؤول الرقابي الأول قبل أكثر من عام عن فساد بهذا الحجم (٢٣ مليارا من الجنيهات) لم يترتب عليه ما كان لازما وواجبا من إجراءات تحقيق ومحاسبة. بل تقول لنا الوقائع أن ما جرى كان على العكس تماما: برامج تلفزيونية سارعت ليلة المؤتمر الصحفي الصادم بتشويه الرجل. وجهات أمنية، بالمخالفة للدستور والقانون سجلت مكالماته الهاتفية، وأحد المسؤولين الذين طالتهم اتهاماته صار وزيرا(!)

ليس معنى التذكير بذلك على الإطلاق التقليل من قيمة ما جرى مع وزير الزراعة وأعوانه، فكل جهد في مكافحة الفساد؛ صغر أم كبر مشكور ومطلوب. ولكن هذا لا ينفي حقيقة ودلالة أن العام الثاني يوشك على الانتهاء دون أن نسمع عن تحقيق (والأهم نتائج التحقيق) فيما «أبلغنا» به علنا المسؤول الرقابي الأول في هذا البلد. كما لا ينفي ما تعلمناه في كليات الطب من حقيقة أن «المرض أهم من العرض». وما تعلمناه من التجربة والقانون أن «بيئة» الفساد والإفساد أهم كثيرا من تقديم هذا أو ذاك للمحاكمة. 

•••

بمقتضى قانون صدر في مارس الماضي، يصبح للسلطة «التنفيذية»، لا القضاء «المستقل» القول الفصل والنهائي فى جرائم المال العام.  .. ورغم ذلك يحدثونك عن مكافحة الفساد (!) 

لم تكن تصريحات جنينة الصادمة، وتجاهلها «واقعيا»، على ما في هذا التجاهل من صدمة، هو كل ما يمكن أن نتذكره على وقع التصريحات «الرسمية» التي سمعناها في الأيام الأخيرة عن «الحرب على الفساد»، إذ لا يمكن للمراقب المهتم إلا أن يستغرب أن تُقْدم دولةٌ يقول مسؤولوها (بمن فيهم رأس الدولة) أنها تحارب الفساد على إصدار مثل هذا القانون (قانون رقم ١٦ لسنة ٢٠١٥ بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية) والذي أصدره الرئيس «قرارا بقانون» في مارس الماضي. (سبقني في التعليق عليه كثيرون منهم المهندس يحيي حسين عبدالهادي في «الأهرام» والأستاذ عبدالله السناوي في «الشروق»، والأستاذ حمدي رزق في المصور، فضلا عن الدكتور علي الغتيت  الفقيه القانوني المعروف). ولمن فاته الاطلاع على النص فالقانون غير المسبوق يجيز لأول مرة في التاريخ التشريعي الذي نعرف التسوية الودية والصلح مع مرتكبي جنايات الاعتداء على مصالح الدولة والمنصوص عليها في قانون العقوبات من قبيل جرائم اختلاس الأموال العامة والخاصة والاستيلاء عليها بغير حق ،،، الخ. يجيز القانون هذه التسوية حتى لو كانت التهمة قد ثبتت وصدرت بحق مرتكبيها أحكام قضائية (!) بل وحتى لو كان الحكم «باتا» وكان المحكوم عليه محبوسا نفاذا لهذا الحكم (!). والأدهى أن التصالح مع أولئك «الفاسدين» والذي سيكون بحكم هذا القانون أعلى مرتبة من أي حكم قضائي، ستقرره «لجنة» يصدر بتشكيلها قرار من رئيس الحكومة (!)

 بمقتضى هذا القانون إذن يصبح للسلطة «التنفيذية»، لا القضاء «المستقل» القول الفصل والنهائي في جرائم المال العام. وبمقتضاه تُصبحُ قرارات «اللجنة الوزارية» أقوى من قرارات محكمة النقض ذاتها .. ويحدثونك عن مكافحة الفساد (!) 

لن أطلق على القانون كما فعل كاتب الأهرام الذي أتفق مع وصفه «قانون ادخلوها فاسدين». ولكني سأتوقف بالضرورة عند نصوصه حين أسمع بقضية الفساد الأخيرة، وحين أستمع لكل هذه التصريحات «الرسمية» عن الدولة التي تحارب الفساد.  

•••

في حوار تلفزيوني قبل أيام ذكّرتنا دكتورة غادة موسى؛ عضو اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، ومدير مركز الحوكمة بوزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، بافتقادنا واقعيًا «للشفافية». كما ذكّرتنا بالغياب «المزمن» لقانون «الحق في الحصول على المعلومات وتداولها»  وهو القانون الذي لا غنى عنه لمكافحة حقيقية وجادة للفساد (كما ترى المسؤولة صاحبة الاختصاص، ونرى معها) وهو أيضًا القانون الذي تقول الشواهد أن الإرادة السياسية لم تكن أبدًا كافية لإصداره، إذ يعلم كل من عمل على المحاولات الرسمية والأهلية لوضع مشروع  لهذا القانون (وقد شرفت بأن أكون واحدا منهم منذ المحاولات الأولى قبل سبع سنوات) كم اصطدم بالعقلية «الأمنية» العقيمة التي لم تنتبه بعد إلى حقيقة أننا صرنا في القرن الحادي والعشرين. كما نعلم جميعًا للأسف أننا بدلا من أن يكون لدينا (كما الدول المعاصرة) قانونا يحمي الحق في الحصول على المعلومة ونشرها، لا نألوا جهدا في إصدار قوانين، واتخاذ إجراءات تبث الرعب في نفوس الصحافيين الذين هم في العالم كله أحد أدوات المجتمع الضرورية لكشف الفساد والفاسدين.

•••

تعلمنا في كلية الطب أن «المرض أهم من العرض». وتعلمنا من القانون أن بيئة  الفساد والإفساد أهم كثيرا من تقديم هذا أو ذاك للمحاكمة.

لا أحد يجادل في أن عصر مبارك كان يعوم على بحر من الفساد (مبارك نفسه لم ينف ذلك) وإن كان في الوقت ذاته لم يجد حرجا (ولا نظامه) في أن يسدد ١٠٤ مليون جنيه تنفيذا لحكم المحكمة في قضية القصور الرئاسية (لم يتساءل أحد من أين له هذا المبلغ!)

لا أحد يجادل أيضا في أنه غيابًا للإرادة السياسية أحيانًا، وعجزا عن التحرر من «إسار الثأرات القديمة» أحيانًا أخرى. وقبل هذا وذاك عدم إدراك حقيقي لخطورة الثورة المضادة والفساد والفاسدين،  (ولا أريد أن أقول رغبة من البعض في الحفاظ على النظام «بعبله» كما يقول المصريون)، لم تكن مكافحة الفساد، أو الحرص على إبعاد الفاسدين  أولوية لدى أي ممن تولى أمر البلاد بعد الحادي عشر من فبراير ٢٠١١ (لا أستثني أحدا) ولهذا رفض الكل تطبيق القانون رقم ٣٤٤ لسنة ١٩٥٢ المعدل بالقانون رقم ١٧٣ لسنة ١٩٥٣ الذي عرف «بقانون الغدر» رغم التعديلات التي أدخلتها عليه وزارة عصام شرف ليصبح أكثر معاصرة وتماشيا مع الأعراف الدستورية والقانونية (تم إقرار التعديلات في ٢١ أبريل ٢٠١٢ ولكن القانون رغم ذلك لم يُفعل أبدا)

لمن لا يذكر، فالقانون الذي كتبه السنهوري وأصدره عبدالناصر كان يعاقب بالحرمان من الحقوق السياسية وتولي الوظائف العامة «كل من كان وزيرا أو موظفا عاما أو عضوا في البرلمان … وارتكب فعلا من أفعال إفساد الحياة السياسية والتي يعددها القانون ومنها (على سبيل المثال):

١ـ  استغلال النفوذ و لو بطريق الإيهام للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره من أية سلطة عامة أو أية هيئة أو شركة أو مؤسسة.

٢ـ   استغلال النفوذ للحصول لنفسه أو لغيره على وظيفة في الدولة أو وظيفة أو منصب في الهيئات العامة أو أية هيئة او شركة أو مؤسسة خاصة أو للحصول على ميزة أو فائدة بالاستثناء من القواعد السارية في هذه الهيئات.ة

٣ـ  استغلال النفوذ بإجراء تصرف أو فعل من شأنه التأثير بالزيادة أو النقص بطريق مباشر أو غير مباشر في أثمان للعقارات والبضائع والمحاصيل وغيرها أو أسعار أوراق الحكومة المالية أو الأوراق المالية المقيدة في البورصة أو القابلة للتداول في الأسواق بقصد الحصول على فائدة ذاتية لنفسه أو للغير.

والحاصل، أن هذا القانون (الذي مازال من الناحية التقنية ساريا) غاب عن كل محاكمات عصر مبارك ورجاله … والأدهى أنه مازال غائبا. 

•••

وبعد .. 

أُقَدرُ الرغبة في مكافحة فساد نعرف أنه قد سار في الدم مجرى العروق، و أُقَدرُ أن يطول التحقيقُ في القضية الجديدة وزيرا في حكومة قائمة. وأصدق التصريحات الكثيرة (ومنها ما هو رئاسي) عن الفساد الذي استشرى وضرورة مكافحته. ولكني أتذكر أن تصريح زكريا عزمي الشهير عن «الفساد الذي وصل للركب» لم يمنع ما جرى من فساد أكدته دائرتان مختلفتان من دوائر الجنايات في قضية القصور الرئاسية. وأتذكر أن متهما رئيسا في قضية وزارة الزراعة "الجديدة"، سبق حبسه في قضية مشابهة "قديمة" زمن مبارك. ثم كان أن نشرت له الصحف صورا حديثة مع وزراء ومسؤولين عديدين (حاليين). إذ أن الثابت أن النوايا وحدها لا تكفي .. وكذلك التصريحات. وأن المكافحة الجادة للفساد (وبيئته) تستلزم آليات وأدوات باتت من قواعد الدولة المعاصرة: الشفافية، والمحاسبة، والديموقراطية الحقيقية، وحرية التعبير، وسلطة تنفيذية مقيدة، واستقلال «حقيقي» للقضاء .. لا أظننا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ  في لزوم ما كان يلزم 

ــ القضية «الحقيقية»

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved