الإسرائيليون والفلسطينيون: المأزق المتَبَادَل

فيس بوك
فيس بوك

آخر تحديث: الخميس 13 سبتمبر 2018 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

نشر الكاتب الأردنى «لبيب قمحاوى» مقالا على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعى فيسبوك يتناول فيه وضع القضية الفلسطينية الآن وموقف كل من الفلسطينيين والإسرائيليين بعد كل مسارات الصعود والهبوط التى شهدتها القضية.

خاضت إسرائيل العديد من المعارك فى سياق عدوانها المستمر على الفلسطينيين تماما كما خاض الفلسطينيون العديد من المعارك لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى، ولكن ما هى نتيجة كل ذلك؟
كلا الطرفين فشلا فى تحقيق ما أرادا. فالإسرائيليون فشلوا فى سحق الفلسطينيين وشطبهم من الواقع السياسى والديموغرافى السائد على أرض فلسطين التاريخية وكذلك من خارطة الصراع الإقليمى، كما أن الفلسطينيين فشلوا حتى الآن فى هزيمة إسرائيل أو النجاح فى الضغط عليها إلى الحد الذى يسمح بتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينـية أو حتى جزء منها. وكلما ازدادت ضراوة الواقع ازدادت ضراوة المقاومة القادمة من هذا الطرف أو ذاك والرفض للاستسلام لذلك الواقع أو القبول بمطالب الطرف الآخر، فما العمل؟

لقد عزا الكثيرون أسباب الفشل الفلسطينى إلى القيادة الفلسطينية، ولكن من الخطأ الافتراض بأن الفلسطينيين وحدهم يعانون من انهيار قيادتهم السياسية وانحرافها عن النهج الوطنى العام. فالإسرائيليون والجسم السياسى الإسرائيلى يعانى أيضا من أمراضٍ قد تكون أكثر خطورة وأكثر تأثيرا بالنتيجة على واقعهم ومستقبلهم السياسى من ذلك الضرر الواقع على الفلسطينيين بحكم النهج السياسى والأمنى لقيادتهم خصوصا بعد اتفاق أوسلو.
قوة إسرائيل الحقيقية والفعلية تكمن فى مَنَعَتِها العسكرية التى تجعل منها أمرا واقعا مفروضا بقوة السلاح لا يمكن التخلص منه فى ظل موازين القوة الإقليمية السائدة. وهذه المَنَعَة هى ما يجعل إسرائيل قادرة على الصمود والاستمرار فى تعنتها على الرغم من الأمراض العديدة التى تكتنف نظامها السياسى، وبالرغم من جنوح مسارها السياسى فى العقود الأخيرة وباطراد ملحوظ نحو اليمين وأقصى اليمين بشكل صادم وإلى الحد الذى انتهى الآن بسن قانون «قومية الدولة ويهوديتها» والذى يُقر قانونيا، وللمرة الأولى، بأن النظام فى إسرائيل هو نظام فصل عنصرى لا يعترف إلا بمواطنة اليهود من مواطنيه.

الفلسطينيون فى المقابل فشلوا من خلال قياداتهم فى التقدم ببرنامج وطنى فلسطينى شامل وواضح المعالم وملزم لكل القيادات والفصائل الفلسطينية. واختارت القيادات الفلسطينية التواصل مع الاحتلال من خلال الأبواب الخلفية حينا والأمامية أحيانا أخرى متجاوزين الالتزام الفلسطينى التقليدى بالثوابت الوطنية الفلسطينية كما أوضحها الميثاق القومى الفلسطينى. وقد ساهم هذا المسار فى تعزيز وجهة نظر اليمين الإسرائيلى فى عدم إعطاء الفلسطينيين أى تنازلات لأن التنازل الفلسطينى المجانى قادم فى كل الأحوال، وأن الموضوع هو موضوع وقت فقط.

وهكذا أخذ الفلسطينيون باللعب فى الملعب الإسرائيلى وضمن الشروط الإسرائيلية باعتبار أن الوسيط والحَكَمْ الأمريكى منحاز أصلا إلى اللاعب الإسرائيلى مع أنه يُشكل وبموافقة القيادة الفلسطينية محور المفاوضات ومرجعيتها. وهكذا تمتع الإسرائيليون بالتفوق السياسى إضافة إلى تفوقهم العسكرى، ولم ينجح الفلسطينيون خلال تلك العقود الماضية بفرض مسار أكثر اعتدالا على الطرف الأمريكى، وقامت القيادة الفلسطينية بالتنازل التدريجى عن العديد من الثوابت والسياسيات إلى أن انتهى بها المطاف للخضوع للموقفين الإسرائيلى والأمريكى، وهو ما أدى إلى وصول الفلسطينيين إلى طريق مسدود يأخذ بموجَبِهِ الإسرائيليون كل شىء ويبقى للفلسطينيين الأمل المتضائل فى كَنَفِ قيادة متراجعة.

***

ولكن الأمور لم تقف عند ذلك الحدْ، وتَحَوَّلَ الواقع الفلسطينى المرير فى الصراع مع الاحتلال إلى صراع مع الذات. وجاء التغيير الأخطر من خلال تكريس الانقسام الفلسطينى بأيدٍ فلسطينية والتعامل معه فى بعض الأحيان باعتباره أكثر خطرا على مصالح السلطة الفلسطينية من الاحتلال نفسه! مسار عجيب وخطير ولكنه يعكس الأمر الواقع الفلسطينى. وتَحَوَّلَ هذا الوضع إلى واقع جديد مؤلم وخطير تقوم السلطة الفلسطينية بموجبه بالاتكاء على الدعم المباشر أو غير المباشر لسلطات الاحتلال فى خلافها مع حركة حماس الفلسطينية. وفى الوقت نفسه، فإن حركة حماس التى جاهرت بالعداء للاحتلال الإسرائيلى لم تتورع عن الخوض فى مفاوضات غير مباشرة وأحيانا مباشرة مع سلطات الاحتلال للتوصل إلى ترتيبات واتفاقات هدنة سواء أكانت هدنة قصيرة الأمد أم طويلة الأمد، وبمعزل عن أى تنسيق مع السلطة الفلسطينية.

وهكذا، فى الوقت الذى جاهرت فيه حماس بالعداء للاحتلال الإسرائيلى وبالتعهد باستمرار النضال ضده، وفى الوقت الذى جاهرت فيه السلطة الفلسطينية بالتخلى عن مسار الكفاح المسلح واختيار المسار السياسى، فإن كلا الفريقين لم يتوقف فعلا عن التواصل مع الاحتلال الإسرائيلى بوسائل وطرق مختلفة ولأهداف مختلفة قد تتناقض فى أحيان كثيرة مع المصلحة الوطنية الفلسطينية.

لقد غاب عن ذهن الكثيرين ومنهم القيادات الفلسطينية المختلفة أن نضال الشعب الفلسطينى لم يرتبط أصلا بحزب أو تنظيم أو عقيدة بقدر ما كان عفويا يعكس رفض الشعب الفلسطينى لاحتلال وطنه فلسطين وتصميمه وإصراره على استعادة ذلك الوطن. وقد جاء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتأطير تلك المشاعر والثوابت الوطنية الفلسطينية وليس لخلقها من العدم. وفى الواقع فإن دور بعض القيادات والتنظيمات الفلسطينية جاء معاكسا لآمال وطموحات وثوابت الشعب العربى الفلسطينى سواء فى سعى بعضهم إلى فك الارتباط بين العرب والقرار الفلسطينى كما عبرت عن ذلك حركة فتح فى أدبياتها المبكرة، أو فى الاطاحة بنهج النضال طوعا والتضحية به على مذبح السلام كما حصل فى اتفاقات أوسلو وعقبها. الشعب الفلسطينى إذا كان أكثر وعيا ووطنية ونضالا من القيادات التى حَكَمَتْهُ أو معظم التنظيمات التى ادعَت تمثيله وتمثيل قضيتِهِ وصولا إلى محراب السلام الاستسلامى.

***

الآن وبعد كل عمليات الصعود والهبوط التى رافقت مسيرة النضال الفلسطينى والواقع المر للاحتلال الإسرائيلى لأراضى فلسطين، يبرز السؤال الكبير، ما هو وضع القضية الفلسطينية الآن؟ أين يقف الفلسطينيون وأين يقف الإسرائيليون؟
يسعى الإسرائيليون الآن وبدعم أمريكى نشط وغير مسبوق إلى خلق وقائع جديدة بهدف حسم الصراع، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين والعرب. وهذا المسار يستند إلى أربعة عوامل:
الأول: التفوق الإسرائيلى العسكرى الكاسح.
الثانى: الضعف والتشتت الفلسطينى المتفاقم.
الثالث: ضعف وانهيار العالم العربى واختلال أولوياته.
الرابع: دعم ادارة ترامب الأمريكية غير المسبوق للموقف الإسرائيلى ومتطلباته استنادا إلى العوامل الثلاثة السابقة. وقد اكتسب هذا المسار عنوان «صفقة القرن» وهو عنوان أمريكى أقرب ما يكون إلى العناوين السينمائية البراقة والذى يُخفى سوادا وكَربا كبيرا فى طياته تماما مثل عنوان «حرب النجوم» للخطة الأمريكية فى عهد ريجان والتى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى. «صفقة القرن» هى عنوان لمسار أمريكى ــ إسرائيلى يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وإلغائها من خلال القضاء على المقومات الرئيسية لتلك القضية واخراجها بالتالى من حلبة المفاوضات تمهيدا للإعلان على انتهائها وإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيا.
إن ما يجب أن يسعى إليه الفلسطينيون الآن هو إفشال المخطط الإسرائيلى ــ الأمريكى المتمثل فى صفقة القرن انطلاقا من الموقف الاستراتيجى بأن إسرائيل إذا ما ضَرَبَتْ بأقصى ما لديها وفَشِلَتْ أو تم إفشالها، فإن ذلك يشكل فى الواقع بداية النهاية لمسار التعسف المستند إلى القوة المسلحة الطاغية. وهذا ما يتوجب على الفلسطينيين فعله. فالمسار الإسرائيلى العسكرى فَشِلَ فى كَسْرِ إرادة الشعب الفلسطينى من خلال اللجوء إلى القوة المسلحة على مدى العقود الماضية، والآن تسعى إسرائيل إلى استعمال السلاح البديل وهو إلغاء ثوابت القضية الفلسطينية مثل عروبة القدس وإلغاء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، انتهاء بإلغاء جميع حقوق الفلسطينيين فى وطنهم فلسطين من خلال فرض قانون يهودية وقومية الدولة، وتحويل وضع الفلسطينيين من مواطنين على أرضهم وفى وطنهم فلسطين إلى أجانب مقيمين فى دولة إسرائيل اليهودية دون أى حقوق أو حتى الحق بالمطالبة بأى حقوق.
وهكذا فإن حرمان إسرائيل من القدرة على الانتصار من خلال حسم وضع الفلسطينيين وإلغاء قضيتهم عوضا عن حلها سوف يَضَعُ الإسرائيليين أمام مأزق حقيقى من خلال تَرْكِهِم بلا خيارات سوى خيار التعامل مع الفلسطينيين كأصحاب حق وأصحاب قضية تفرض على الإسرائيليين المبادرة بالتغيير وتقديم التنازلات المطلوبة واللازمة للفلسطينيين من أجل الوصول إلى تسوية عادلة من منطلق أولوية الحق على أولوية القوة.
الرفض الفلسطينى القاطع والمانع لمجمل السياسات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة يجب أن يكون إذا شعار المرحلة الحالية. وأى محاولة فلسطينية أو عربية للقبول بصفقة القرن أو ذيولها بأى صيغة وتحت أى مبرر يشكل خيانة للقضية الفلسطينية يجب رفضها ومحاسبة المسئولين عنها فيما لو حصلت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved