من يحمى الدولة الحديثة فى مصر؟

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الخميس 13 أكتوبر 2011 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

فى تاريخ مصر المعاصر أيام مشهودة اضطرب فيها النظام العام، ووقعت خسائر كبيرة فى الأرواح والممتلكات. فى يوم السبت الأسود 26 يناير 1952 شب حريق القاهرة لأسباب غير معروفة حتى يومنا هذا، وفى 18 و19 يناير 1977 انتفضت جماهير القاهرة نفسها دفاعا عن حقوقها الاقتصادية ومستويات معيشتها. فى 26 يناير كان المناخ العام مناخ كفاح مسلح ضد الإنجليز بعد الغاء معاهدة سنة 1936 بشهور ثلاثة، وفى إطار مواجهة مع ملك البلاد من أجل احترام إرادة الشعب.أما 18 و19 بناير فقد وقعا فى خضم عملية تحول من اقتصاد مركزى مخطط إلى اقتصاد السوق، وعملية انتقال من صداقة قوة كبرى هى الاتحاد السوفييتى، إلى علاقة حميمية مع قوة كبرى أخرى هى الولايات المتحدة. كانت هذه الأيام الثلاثة محنا فى تاريخ مصر فلقد تهدد فيها النظام السياسى، وهو بالفعل لم يصمد بعد أول هذه الأيام، ومر بتحول واسع المدى، عميق الأثر، بعد اليومين الآخرين.

 

ولكن الأحد 9 أكتوبر 2011 هو يوم من نوع آخر. هو اليوم الحزين الذى بدا فيه واضحا لكل ذى عينين التهديد الحالى للدولة الحديثة ولأسسها، الدولة التى أنشأها المصريون خلال قرنين من الزمان، ورغم كل أوجه قصورها، فهى الدولة التى حفرت الترع، وجففت المستنقعات، وشيدت السدود، وأدخلت المحاصيل ونوعت فى الزراعات. وهى الدولة التى أدخلت التعليم الحديث بعلومه الطبيعية والإنسانية المستحدثة. الدولة الحديثة هى التى زودت مصر بجيشها، وأدخلت الصناعات، ورفدت الثقافة المصرية بتيارات الثقافة العالمية، فكانت النتيجة ازدهار الثقافة المصرية وانتشارها واكتسابها الاحترام والنفوذ لمصر فى عالميها العربى والإسلامى، بل وفيما عداهما. وكان الارتباط وثيقا، والعلاقة السببية جلية بين الانجازات المذكورة، والاجتهاد المخلص للدولة فى المساوة بين مواطنيها، بصرف النظر عن عقيدتهم أو أصولهم العرقية، فضلا عن لونهم، وأصولهم الاجتماعية، وأخيرا عن جنسهم. واستند ذلك كله إلى نظام قانونى مبتكر ومجدد مزج قواعد القانون الوضعى الحديثة التى تقدم الآخرون بها، بمبادئ الشريعة الإسلامية العميقة فى تاريخ الأمة وفى ثقافتها. ولم يكن إلا طبيعيا نتيجة لذلك أن تتالت فى مصر أنظمة سياسية استبشر بها أبناء البلاد العربية كافة، فوفدوا إليها ينتجون فيها أفكارهم وصناعاتهم، فيزدهرون ويثرونها، أو يشنون منها كفاحهم من أجل الحرية والاستقلال فى بلدانهم، وهو ما فعله أيضا أبناء القارة الأفريقية.

 

●●●

 

فى العقود الأربعة الماضية، هوت معاول الهدم وفؤوسه على مبادئ الدولة الحديثة ومؤسساتها. أول المبادئ تعرضا للهدم كان أخطرها شأنا بالنسبة للدولة الحديثة، ألا وهو المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن عقيدتهم، حتى أصبح التهجم على هذا المبدأ شيئا مألوفا، وصار الاعتداء على الكنائس القبطية وعلى المواطنين الأقباط أمرا دوريا معتادا. ووصل الاعتياد إلى حد أن اعتنق نفس من يدافع عن المساواة بين المواطنين ألفاظ ومصطلحات الداعين إلى التمييز بينهم! تجد مثلا أن تغطية موضوعية لأحداث الأحد الدامى، فى صحيفة محترمة، تشير بغير وعى إلى مواجهات «بين الأقباط ومجموعات من المواطنين»، وكأنما الأقباط ليسوا مواطنين هم أيضا! وغير بعيد عن الأحداث التى وقعت أمام مبنى التليفزيون فى ماسبيرو فى القاهرة، وكما جاء فى شهادة واحد من الناشطين فى مجال حقوق الإنسان، بلغ الاعتداء أو الشروع فيه حد أن سارت مجموعات فى منطقة غير بعيدة عن مبنى التليفزيون تسأل إن كان يسكن فيها «مسيحيون»، أو تفتش فى البطاقات الشخصية للمارة عن «مسيحيين»، حتى تفتك بهم! بل إن مجموعة من المواطنين، سواء كانوا «بلطجبة» أو لم يكونوا، لاحقوا موطنا قبطيا جرى واختبأ فى نقابة الصحفيين، ودمروا ما دمروه فى النقابة عندما رفض القائمون عليها تسليم المواطن إليهم. وفى كل ذلك الدولة غائبة عن حماية مجموعة من مواطنيها، وعن ملاحقة مجموعة أخرى منهم خارجة عن كل قانون. وأشد ما يدعو للأسف أن ذلك، وإن هالنا، لم يصبح مستغربا تماما من الدولة. فلقد دأبت الدولة التى كان لها أن تفتخر بالنظام القانونى الحديث الذى أنشأته خلال ما يناهز القرن ونصف القرن من الزمان، دأبت هذه الدولة فى العقود الأخيرة على تجاهل هذا النظام القانونى نفسه وعلى الارتداد إلى ما أسمى بالعرف فى تسوية النزاعات الناشئة عن اختلاف العقيدة بين المواطنين، وهو ليس من العرف الذى يؤخذ به فى شىء إن كان يخرق مبدأ المساواة بين المواطنين، ويبطل وظيفة الدولة فى الدفاع عنهم وعن هذه المساواة.

 

فى يوم الأحد التاسع من أكتوبر، لم تمتنع الدولة فقط عن ممارسة وظيفتها الأولى وهى الدفاع عن كل مواطنيها، بل إنها هاجمتهم وأوقعت القتلى، بعدد كبير، بينهم. ولا مجال حتى للاعتداد بحجة تعرض بعض ممثلى الدولة للاعتداء من قبل نفر من المتظاهرين الذين خرجوا على سلمية الإحتجاج. المقارنة بين عدد القتلى على الجانبين المتصارعين، يبين الاختلال الهائل فى القوة المستخدمة، وهو اختلال ينزع كل شرعية عن العنف الذى مارسته الدولة ضد مواطنيها. الدولة لا تمارس العنف كطرف فى نزاع، وإنما هى تلجأ إليه مضطرة، وبأقل درجاته، لفرض احترام القانون والنظام العام، ولحماية نفسها. أما وقد خرجت الدولة عن حدود ممارسة العنف فى الدولة الحديثة، فإنها أطلقت فى هذه المرة قذيفة، ولم تعمل الفأس وحده، ضد نفس أسس هذه الدولة الحديثة المفترض فيها حمايتها.

 

●●●

 

المطلوب أن تهب القوى السياسية وبلا تأخير لتحمى مصر الحديثة، لكى تستطيع التصدى بعد ذلك لأوجه قصورها، وتعود بها إلى تحقيق مصالح كل مواطنيها، وإنفاذ حقوقهم السياسية، والمدنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ثم لتكون مستعدة لوضع مصر والمصريين على طريق المستقبل، طريق التقدم والعزة.

 

على قوى اليسار، وعلى التيارات الليبرالية، بما فيها التيار الاجتماعى، وعلى أطياف الإسلام السياسى النصيرة للدولة الحديثة أن تتشاور وتتحادث وتوحد جهودها لحماية هذه الدولة الحديثة. على الإخوان المسلمين تحديدا دور هائل يلعبونه فى هذا السبيل. الإخوان المسلمون نتاج للدولة الحديثة، والتيار الأوسع بينهم لم يدع إلى هدمها قط. دعوة الإخوان المسلمين كانت لإصلاح ما رأوه خروجا من هذه الدولة على ثوابت فى الإسلام ولإضفاء خصائص إسلامية على هذه الدولة الحديثة. فلتتباحث القوى السياسية بشأن حماية الدولة الحديثة، وحول طبيعتها وخصائصها، ولتعلم كلها، اليسار، والليبراليون، والإسلام السياسى، خاصة الإخوان المسلمين، أن السياسة هى التفاوض والوصول إلى حلول وسط، يقبل بها المجموع وتكون فى صالحه، وإن لم يرض بها كل طرف على حدة.

 

الدولة الحديثة جعلت مصر نموذجا فى عوالمها العربى، والإسلامى والأفريقى. بدونها تفقد مصر وهجها، وتنزوى. القوى السياسية المسئولة وحدها هى التى تستطيع حماية هذه الدولة، وهى قادرة على ذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved