دستور من أجل الدولة الحديثة الحقَة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 13 أكتوبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

ثورة العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين التى انطلقت فى مصر فى يناير 2011 كانت ثورة على ما آلت إليه الدولة الحديثة فى مصر. المراقب المتأمل فى تطور أحداث العامين الأولين بعد الثورة يدرك أن سوء تفاهم تاريخى لحق بتفسير هذه الثورة، أنصار الإسلام السياسى فسَروا ثورة المصريين على مآل الدولة الحديثة على أنه ثورة عليها، ومن عداهم من الثوريين رآها ثورة فى الدولة الحديثة من أجل إصلاح عوارها وتدعيمها حتى تقوى على الاضطلاع بالوظائف المتوقعة من أى دولة حديثة فى الحاضر وفى العقود المقبلة من القرن الحادى والعشرين. الإخوان المسلمون استهانوا بتفسير من عداهم من التيارات الثورية وفرضوا تفسيرهم وحده فرضا، فلما لفظه المصريون وسقط، كان المفترض أن يكون تفسير التيارات غير الإسلامية للثورة الأساس للمشروع السياسى الذى تؤسس له هذه التيارات.

الدستور هو السبيل للاتفاق على مضمون هذا التفسير أو للتوفيق بين التفسيرات الفرعية التى تندرج تحته. التفسيرات الفرعية هى تفسيرات اليمين الليبرالى، واليمين القومى، والوسط بيمينه ويساره، والناصرية، واليسار، وأقصى اليسار، بل إن تفسير القوى غير الإسلامية للثورة يتسع ليشمل تفسيرات فصائل الإسلام السياسى لها طالما قبلت مفهوم الثورة فى الدولة الحديثة من أجل إصلاحها وإن استدعى ذلك عمليات جراحية فى عمق جذورها. أما الدولة الحديثة المقصودة فهى الدولة الوطنية الإقليمية التى نشأت هياكلها منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر فى ظل حكم محمد على، والتى لم يسائل فى شرعيتها جمال عبدالناصر نفسه حتى عندما ثار على أسرة محمد على واقتلعها من حكم مصر.

●●●

ما الذى تعنيه الثورة فى الدولة الحديثة ومن أجلها؟

أول ما تعنيه هذه الثورة هو العمل من أجل التنمية الحقيقية لمصر. الأمية، والمرض، والفقر، وأضف عليها انهيار العملية التعليمية وانحطاط الخدمات والمرافق والبيئة، لا يمكن أن يعالجها إلا تنمية شاملة. والاضطلاع بعملية التنمية الشاملة هو نفسه سبيل لعلاج الأمراض المجتمعية المشينة التى يعانى منها المصريون. التنمية ليست عملية للنمو الاقتصادى، ولا حتى لتحديث بعض هياكل الاقتصاد، يليها توزيع لعوائد النمو. للتنمية أبعادها السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية، فضلا على الاقتصادية منها. المشاركة الواسعة فى عملية التنمية، بما فى ذلك فى إحداث النمو الاقتصادى، هى فى حد ذاتها توزيع لعوائد النمو وتحقيق للتنمية. الدستور ينبغى أن يشدد على ذلك وأن يترجمه إلى أحكام تكون أساسا للسياسات ومنها، وبشكل خاص، السياسات الاجتماعية والثقافية. ولأن ظروف معيشة المصريين مضنية والتحديات المقبلة هائلة فلا بد أن يكفل الدستور سبل قياس التقدم فى تحقيق التنمية وفى توزيع عوائدها عن طريق السياسات الاجتماعية والثقافية. التوزيع العادل لعوائد التنمية ولثمار النشاط الاقتصادى هو من خصائص الدولة الحديثة.

علاج الدولة الحديثة، وإدخال تحديث جديد على تحديثها، من أجل أن تضطلع بوظائفها فى القرن الحادى والعشرين هو المعنى الثانى لمفهوم الثورة فى الدولة الحديثة. هذا العلاج لا يحتمل المواءمات ولا أنصاف الحلول. الدولة الحديثة هى دولة تفصل بين الدين والدولة. هى دولة محايدة لا تنحاز إلى هؤلاء المواطنين أو أولئك على أساس عقيدتهم الدينية، أو جنسهم، أو مجموعتهم العرقية أو اللغوية، أو أصلهم الاجتماعى، أو آرائهم السياسية. الدولة الحديثة لا تلتفت إلى هويتها. الهوية للمجتمع وليس للدولة. والدولة ليست حارسة على المجتمع، ولا المؤسسات الدينية، أزهرا كان أو كنيسة، مسئولة عنه. المؤسسات الدينية تعلم الناس دين كل منهم، وتعينهم على إقامة شعائرهم، وتوفر الرعاية لمن يحتاجها من بينهم، وتدعو للتعايش بين كل المواطنين وتكفله. المجتمع هو المسئول عن نفسه وعن تطور أخلاقه، فى إطار من احترام القانون ومن الحرص على وحدته وتماسكه. أما أدوات المجتمع فهى منظماته المستقلة عن الدولة، وإن تعاونت معها. أى مواءمات أو لبس بخصوص عدم انحياز الدولة وعدم تمييزها بين المواطنين، من جهة، وبشأن اختصاص المجتمع بشئونه وبتطور الأخلاق فيه، من جهة أخرى، هو إضعاف للدولة الحديثة وتقويض لإمكانياتها التى ينتظر أن تستخدمها لتحقيق التنمية المرجوة. ولا يخفى أن فى المواءمات واللبس إهدارا لتحرك المصريين فى 30 يونيو وإفراغا لمعنى الحرص على الدولة الحديثة الذى جسده. والدولة الحديثة هى كذلك دولة القوات المسلحة بنية رئيسية فيها، ولكنها بنية تقيم الدولة وتعززها، وليست بنية تلحق الدولة بها. أبعاد دور القوات المسلحة هذه فيها حماية لها وتمكين، وهى تنأى بها عن صراعات الممارسة السياسية وتكاليفها.

التنمية هى حركة، وتجميد الهوية سكون. فى عالم القرن الحادى والعشرين، السكون منهزم لا محالة. ولكن الحريصين على السكون سيبذلون الجهد لتثبيته غير مدركين أن معركتهم خاسرة. النزعة إلى السكون ستصطدم بالحركة التى يحتاجها المصريون وهو ما سينشأ عنه صراع يبعثر الجهود، ويعطل التنمية، ويقسم المجتمع، وينخر فى الدولة الحديثة، نفس الدولة التى كان تعطيل العملية الدستورية فى 3 يوليو من أجل إنقاذها وإنقاذ المصريين معها. لا مكان للهوية فى أى دستور فى العالم. وليس فى إبعاد حديث الهوية عن الدستور معاداة للدين، أو هجوما عليه، أو انتقاصا من قدره. هذا غير ممكن فى بلد هو أصل الغيبيات فى تاريخ الحضارة، فضلا على أن التاريخ الحديث والمعاصر لمصر يشهد على أن السياسيين المتمسكين بالفصل بين المجالين الدينى والسياسى، وحتى الستينيات من القرن العشرين، عرف عنهم التقوى والورع بل إن أحدهم، الدكتور محمد حسين هيكل، كتب سير الرسول وخليفتيه الشيخين حتى وصل الأمر بمؤسس الإخوان المسلمين، حسن البنا، أن عرض عليه زعامة الجماعة!    

●●●

الدين مبجل والسياسة تهدد هذا التبجيل. الندرة ترفع القيمة والوفرة تخفضها. كثرة ترداد كلمة «الدين»، بدلا من أن ترفع شأنه، تنتقص منه. نفس التقدير ينطبق على أى مفهوم أو مصطلح تلوكه الألسنة والأقلام صباح مساء، وما أكثر هذه المفاهيم والمصطلحات فى مصر اليوم. 

والدولة الحديثة هى دولة تثق بنفسها، لا ترى فى كل تفاعل سياسى لا يروق لها، داخليا كان أو خارجيا أو مختلطا، تآمرا يستوجب التوجس والانغلاق والشك فى العالم المحيط. الدولة الحديثة تدافع بثقة عن مواقفها، وتتفاعل، وتؤثر فى بيئتها المباشرة وفى المحيط العالمى الأوسع.

موضوع رئيسى فى أى دستور هو تصميم نظام الحكم، وتوزيع السلطات فيه، والفصل بين السلطات الثلاث وتحقيق التوازن بينها. غير أن أحسن تنظيم لمثل هذا النظام سيظل بلا جدوى طالما بقى الالتباس المذكور لأنه سيسمح دائما للدولة بأن تفتئت على حرية المجتمع، كما سيغرى بعض الفاعلين السياسيين بالتلاعب بالدين من أجل تحقيق أغراض سياسية.

سواء نص برنامج 3 يوليو على تعديل الدستور أو تبديله، فالعبرة هى فى بث روح الحركة والتقدم والتنمية فيه وفى إخضاع الدولة لإرادة المجتمع، وفى تثبيت استقلال المجتمع ومسئوليته عن نفسه. يمكن تماما كتابة دستور جديد مع الإبقاء على العلاقة الملتبسة بين المجتمع والدولة، من جانب، وبين الدين والسياسة، من جانب آخر. فهل يترتب على مثل هذا الدستور الجديد أى خير؟

هل يعزز الدستور الجارى تعديله الدولة الحديثة بخصائصها ووظائفها الموصوفة أعلاه؟ لكل أن يرد على السؤال على ضوء الحياة التى يتمناها للمصريين وتصوره للدولة الحديثة التى تستطيع تحقيقها. على أن الشىء المؤكد هو أنه لا ينبغى ابتذال الدستور ليصبح أداة لتوزيع الامتيازات وتحديد الاختصاصات فيما بين أجهزة الدولة التنفيذية أو القضائية. الدستور أداة رفيعة لتحقيق الأهداف النبيلة لمصر والمصريين.   

 

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved