تحدى تجديد العروبة.. وحروب الكلام

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الأحد 13 أكتوبر 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

نظم النادى الثقافى العربى ببيروت خلال الأسبوع الأول من أكتوبر الجارى مؤتمرًا إقليميًا حول «تحدى تجديد العروبة»، حظى باهتمام رسمى كبير، إذ شارك فى جلساته الافتتاحية فخامة دولة الرئيس تمام سلام وفخامة دولة الرئيس فؤاد السنيورة، وعدد من الوزراء اللبنانيين والعرب، وسفراء ومسئولين بالجامعة العربية ومؤسسات عربية أخرى.
يبدو اختيار النادى الثقافى العربى تخصيص مؤتمر يحتفل فيه بمرور 75 عامًا على إنشائه لبحث تحديات العروبة مبررًا ومفهومًا. فقد كانت العروبة حلمًا وغاية للنادى منذ تأسيسه عام 1944. لكن الماضى ليس وحده سبب دراسة مشروع العروبة، بل إن صوت الحاضر هو الحافز الأقوى على ذلك. فالعالم العربى الراهن يعيش ظروفًا صعبة، وصفها الرئيس فؤاد السنيورة فى كلمته الافتتاحية للمؤتمر بأنها «تهافت التهافت»، مستوحيًا كتاب ابن رشد الشهير. يفسر دولة الرئيس فؤاد السنيورة عبارته بالإشارة إلى واقع العالم العربى الراهن؛ الذى تتمزق بعض بلدانه بسبب صراعات داخلية ضارية، ويخوض بعضها الآخر معارك لا تقل ضراوة مع دول جوار عربى شقيقة، فى حين تتصاعد الهيمنة والسيطرة التى تمارسها دول الجوار غير العربية، ودول الاستعمار القديم، والجديد على الدول العربية جميعًا. وفى ظل واقع الهوان والتشرذم الذى يحياه العرب الآن، يبدو أن لا ملجأ ولا منقذ للعرب إلا تبنى العروبة بوصفها فكرة جامعة، ومشروعًا استراتيجيًا، كى يواجهوا مخاطر الصراعات الداخلية، والحروب الإقليمية، والهيمنة الخارجية.
لقد اختار منظمو المؤتمر دعوة عدد قليل من الباحثين العرب لمناقشة تحدى تجديد العروبة. وقد لاحظت أن اختيارهم للباحثين يكشف عن وعى نافذ بالتحديات الحقيقية التى تواجه مشروع العروبة. فقد اختاروا شخصيات تنتمى إلى حقول معرفية متنوعة وثيقة الصلة بالموضوع مثل العلوم السياسية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلوم اللغة والخطاب. وقد دعوا ممثلين عن معظم الدول العربية، ومعظم المؤسسات المعنية بالتعاون الإقليمى العربى.
***
حين تلقيتُ الدعوة للمشاركة ببحث فى مؤتمر تحدى تجديد العروبة استوقفنى الأمر قليلا. إذ نادرًا ما تهتم المؤسسات السياسية العربية بالاستعانة بالمتخصصين فى دراسة الخطاب السياسى لفهم دور الخطاب فى الواقع السياسى. وذلك على الرغم من التأثير الهائل للخطاب فى صياغة التوجهات، والقناعات، والآراء، والقيم السياسية. وقد زاد تقديرى لطريقة معالجة النادى الثقافى العربى لتحديات العروبة حين لاحظتُ أن محور اللغة والخطاب والهوية كان محورًا أساسيًا فى الدعوة المرسلة للمساهمين فى المؤتمر.
تبدو دراسة خطاب العروبة حاسمة فى أى مشروع لتجديدها. فالعروبة بوصفها فكرة، وقناعة، وإيمان، وتوجه ليست إلا خطابًا فى نهاية المطاف. إذ يتشكل إدراك الإنسان العربى لهويته العربية بواسطة النصوص والخطابات التى تبنى هذه الهوية الجامعة داخل عقله، وروحه. علاوة على ذلك، يكاد يكون من المستحيل تفسير فشل مشروعات الوحدة العربية التى جرت على مدار العقود الأخيرة، وتفسير تراجع العروبة بوصفها هوية جامعة للعرب بمعزل عن دراسة أثر خطاب العروبة، ومن يدعون، إليها ومن يعادونها.
لقد عرف العالم العربى على مدار القرن الماضى عدة أشكال ومحاولات للوحدة. تراوحت بين مشاريع وحدة كاملة، استهدفت الدمج بين دولتين أو أكثر لتأسيس دولة قومية واحدة؛ مثل مشروع الاتحاد العربى الهاشمى، والجمهورية العربية المتحدة، واتحاد الجمهوريات العربية، ومشاريع اتحاد جزئى بين دول جوار إقليمى؛ مثل اتحاد المغرب العربى، ومشاريع تعاون إقليمى مثل مجلس التعاون الخليجى، ومجلس التعاون العربى. وقد عرفتْ هذه المشاريع مصائر متفاوتة من النجاح والفشل، ففى حين قطعت الانقلابات العسكرية شرايين مشروعى الاتحاد بين الأردن والعراق وبين مصر وسوريا، تقطعت أوصال مشاريع أخرى لأسباب مختلفة أخرى، لعل أهمها تلك المتعلقة باللغة والخطاب.
***
إن التعلم من خبرات الماضى أمر ضرورى إذا أردنا بالفعل أن تكون العروبة سفينة إنقاذ. ولتحقيق ذلك يتعين علينا دراسة عوامل فشل مشاريع الوحدة العربية، وفشل تبنى العروبة بوصفها هوية جامعة. ومن بين أهم هذه العوامل أثر حروب الكلام فى مشروعات الوحدة العربية. ويمكن تحديدًا التركيز على مستويين: الأول حروب الكلام بين الكيان الوحدوى (الجمهورية العربية المتحدة على سبيل المثال)، والكيانات والدول العربية الأخرى التى تختلف معه. والثانى حروب الكلام بين دول تشكل عناصر الكيان الوحدوى نفسه إثر تفككه. ويتطلب ذلك دراسة حروب الكلام التى صاحبت وأعقبت تدشين مشروع الوحدة المصري ــ السورى عام 1958، ومشروع الوحدة المصري ــ الليبى عام 1972، ومشروع مجلس التعاون الخليجى (1981)، ومشروع مجلس التعاون العربى (1989)، واتحاد المغرب العربى (1989)، وغيرها من مشاريع التعاون والوحدة.
لقد أتيح لى خلال الأسابيع الماضية الاطلاع على كم كبير من الخطابات العربية التى صاحبتْ مشاريع الوحدة العربية، أو تلك التى تبنت أو هاجمت القومية العربية بوصفها هوية جامعة. وأفجعنى انتشار العبارات التحقيرية، والبذاءة، والتسميات المهينة، وخطاب الكراهية، والعنصرية، وغيرها من أساليب تهديد الوجه الإيجابى للآخرين. وما يفجع أكثر أن بعض هذه الخطابات أنتجتها مؤسسات رسمية، لم تستطع الحفاظ على التقاليد والأعراف المميزة للخطاب السياسى المؤسسى. وكانت النتيجة خلق عداوات، وكراهات، ونزاعات، وصراعات تقوى واقع تشرذم العرب. وكى نتجنب مصيرًا مشابهًا لمحاولة تجديد العروبة يجب أن نتعلم دروس الخطاب. وأقترح لأجل ذلك أمرين محددين:
أولا: إنجاز مشروعين بحثيين موسعين حول خطاب العروبة، وأثر صراعات الخطاب فى تقويض مشاريع الوحدة.
ثانيًا: البدء فى إدارة نقاش عربى حول ميثاق للخطاب العمومى الرسمى فى العالم العربى. وأقترح أن يدور هذا النقاش تحديدًا حول مدى إمكانية وجدوى الاقتراحات الثلاثة الآتية:
• وضع ميثاق أخلاقيات خطاب العلاقات العربية الرسمية فى الفضاء العمومى، برعاية جامعة الدول العربية، وتوقيع كل الدول العربية.
• إنشاء هيئة رصد الخطاب العمومى العربى، تسجيل حالات.
• وضع لائحة جزاءات عربية لجرائم خطاب الكراهية، والعنصرية، والتمييز، والتحريض الممارسة على نطاق إقليمى.
لقد قال الشاعر العربى القديم:
جراحات السنان لها التئام.. ولا يلتام ما جرح اللسان
ويتعين على العرب ــ إن ابتغوا حقًا مستقبلا أفضل لهم ولأبنائهم وأحفادهم ــ أن يقلصوا الآثار السلبية الهائلة لحروب الخطاب، وأن يُدركوا أن بإمكانهم تجنب مستقبل عربى مظلم، إن هم أصلحوا خطابهم فيما بينهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved