ذات مساء فى بيت القفول

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 13 نوفمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

واهم من يعتقد أن المنازل أو البيوت هى من حجر وأسمنت ورمل وبعض الأثاث؛ فالبيوت هى كثير من العرق والدم والدمع والفرح واللحظات المخزنة فى الجدران وبين ثنايا الغرف والزوايا المشرقة بوجود لا ينتهى ممن كانوا هناك.. كان بيت القفول واحدا من ثلاثة سيبقون فى قلب الذاكرة ربما حتى ينتهى المرء تحت الرمال ويرحل الجسد إلى المجهول فيما تبقى الروح، كما كانت تقول هى، تحوم وتسكن البيت الذى كان، ترسم خطوط الذكريات واحدا خلف الآخر وتنشر الحب وكثيرا من لحظات الفرح والحزن.. بين البيوت الثلاثة أو المساكن التى سكنتنا قبل أن نسكنها، يبقى هو حامل ذكريات ما قبل المرض وقبل الأحزان المتراكمة وقبل النضج وقبل الشيخوخة وربما ما قبل الهموم المتراكمة كطبقات الأرض أو السماوات فوقها… ففى مساءاته كان صوت أم كلثوم يأتى من ذاك الجرامافون الحديث حيث يجلس هو، وحيث ينتهى يومه الطويل من «حفيز» المنامة عندما يرنو عائدا لحضن بيته وفى انتظاره كل الحب الذى كانت تعرفه كثير من بيوت البحرين التى كانت.. ذاك الحب الذى لم يعد يسكن البيوت الحديثة الملونة كما كان فى البيوت البسيطة المتلاصقة حد التزاوج.
***

فى مساءات بيت القفول تقفل الصفحات الأخيرة للدفاتر وتنتهى ساعات الشد لإكمال الواجبات المدرسية ويبدأ الاستعداد لوضع وجبة متواضعة من العشاء والتواضع فى الوجبات لم يكن نتيجة ضيق ذات اليد بل نتيجة ثقافة تغيرت هى الأخرى مع كل شىء آخر فى حياة أهل البحرين.. وجبة ثم نوم هادئ استعدادا ليوم عمل أو دراسة، عندما كان النوم يعنى الإغفاءة حتى الأحلام البسيطة والساحرة فى فرحها.. كان الخلود إلى نوم مريح فى ذاك المنزل بغرفه المتنوعة المليئة بكثير من الحب أمرا ذا مذاق مختلف.. لا انترنت ولا أحاديث ليلية إلا بعض الهمس لما تبقى من الأسرار البسيطة.. لا هواتف تتوزع على عدد سكان البيت صغيرهم قبل كبيرهم.. بل هو هاتف أرضى واحد يبقى قريبا من عين الوالد أو الوالدة حتى لا يلهى عن الدرس والواجبات اليومية والاجراءات المتبعة بقواعد صارمة تبدو هى اليوم وكأنها عسكرية.. حتى التلفاز لا يوجد إلا واحد بالبيت لجميع أفراد العائلة فهو يجمعهم بينما أصبح يفرقهم اليوم إلى أفراد بعوالم متشعبة.

ولكن لم يكن التلفاز هو سيد الليالى فى القفول بل كان هو لا ينهى يومه إلا فى حضن صوت «الست» سيدة النساء والغناء كل ليلة اسطوانة من أغانيها القديمة منها والأكثر حداثة.. من سيرة الحب مرورا بألف ليلة وليلة حتى رق الحبيب.. ينهى يومه كما كثير من العرب فى أراضيهم الممتدة والتى بدأت تتقلص أخيرا حتى عدنا نتحدث عن مدن تصبح أوطانا أو حتى احياء يرفع عليها العلم فتكون هى الدولة لفئة كانت منا وأصبحت مهووسة بالعدم والعتمة.
***

فى مساءات بيت القفول كثيرا من الذكريات العذبة تلك التى قد تتحول فى القريب كذلك البيت إلى حطام أو هيكل أو بقايا منزل فيما تبقى الذاكرة حتى عندما تشيخ لا تحتفظ إلا بتلك الذكريات البعيدة القريبة! فيسقط الحجر على الحجر ولكن لا يمكن أن تموت الذاكرة منهم جميعهم الذين عرفوا معنى الحياة أكثر منا لأنها أكبر من الممتلكات الصغيرة وأعمق من أن تتحول إلى مجرد ركام من التراب والحجر!

فى مساءات بيت القفول لا تزال هى العمود الباقى فيه حتى بعد رحيلنا منه ورحيلها عنا.. وحتى فى كل البيوت التى سبقته ولحقته هى القاعدة الصلبة التى بنت عليها تلك الأسرة الصغيرة.. هى التى كان قلبها أوسع من البيت والبلد بل أوسع من الكون.. هى التى تقضى صباحاتها متنقلة بين المطبخ والحديقة المتواضعة تتابع تفاصيل حيواتنا كلنا أهل البيت من الصغيرة حتى الكبيرة هى التى لا يكون يومها مكتملا إلا بالوقوف عند مطالبنا ورغباتنا الواحد بعد الآخر.. هى التى تعرف كيف يكون البيت أكثر من جدران وأكبر من مجرد منزل بل هو للسكنى والاستكان.. هى التى تتقن فن تحويل الأماكن من مجرد بيوت إلى مساكن بتاريخ وجغرافيا وتفاصيل وضحكات ودمع ومحبة لا محدودة ولا مشروطة ولا مرتبطة بأى رغبة دفينة سوى أمومتها للأرض وما عليها.. تقطف الياسمين زهرة زهرة ثم تتقن فن توزيعه على الغرف والزوايا تنثر الجمال كما تراه فى عينيها لكل من حولها توزع الجمال والفرح بالتساوى لا تعرف سوى كثير منه أى الجمال.. وهى التى فى مساءات بيت القفول تقف عند تفاصيل نهاية اليوم تغلق النوافذ خوفا من نسمة تجرح أحدنا أو حتى تزعج أحدنا أو حتى تزعجه هو وهو يستمتع بالغناء القادم الذى يغلق الأيام ويبدأ معها السهر برفقة بعض الأحبة والقمر..
***

فى مساءات بيت القفول تبدو العتمة بعيدة عن ذلك المنزل لا شىء سوى النور ينتشر والأصوات الجميلة ورائحة تأتى من المطبخ هى كثير من مزيج العراق بالبحرين.. حضارة هنا وحضارة هناك لا يمكن إلا أن تنتجا كثيرا من المذاقات الطيبة، ألم يقولوا إن المطبخ هو سيد الحضارات وانعكاسها! فكيف إذا تلاصقت الحضارتان رغم بعض المسافة وكثير من التاريخ المتنوع.

فى مساءات بيت القفول يجلس هو بعد يوم طويل يأخذ حمامه البارد المجهز بدفء قلبها هى التى لا يشبهها أحد.. تبقى هناك تقف عند راحة أهل المنزل جميعا دون استثناء ككثير من نساء بلدى ونساء الكون.. تتنقل بين ذاك البيت المتوسط بالقفول منطقة تسكن فى حضن النخيل الممتد حتى مشارف السماء تحولت الآن أى القفول إلى غابة أخرى من الإسمنت لن يعرف أى من الجيل الجديد ما هى القفول الحقيقية ولا قبلها المحرق التى كانت والتى كنا نحن فيها حتى بعد أن انتقلنا إلى ما يشبه الغربة فى البدء ثم ما لبثنا وأن فهمنا أن هذا الوطن بامتداد جزره ليس هو سوى أرض نقية واحدة.
***

تعود مساءات بيت القفول لأنه المسكن أى من تساكنه ويساكنك، يبقى المنزل هو السكن فيما كثيرون لا يعرفون له معنى سوى أن يكون قصرا بغرف فارغة وجمال ميت منذ خلق.. كثيرون لا يدركون أن السكن أو المنزل أو البيت قد يكون هو الوطن أحيانا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved