موطنى، حيث أعطى للشوارع أسماء من أحب

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

تتخذ الكثير من الشوارع العربية أسماءها من رجال سياسة ارتبط ذكرهم بأحداث أو فترات معينة، هم رجال أثروا فى بلادهم أو فى المنطقة العربية فبقيت قصصهم موضوع نقاشات امتدت على مدار السنوات. ليس لكل سياسى شارع طبعا ومن المثير أحيانا أن نعرف كيف تغيرت أسماء الشوارع مع تغير الحقبات التاريخية وتغير الأجواء. شارع بومدين فى عمان، جادة الحبيب بورقيبة فى تونس أو ميدان طلعت حرب فى القاهرة، أسماء على لافتات نراها فى الصغر عند انتظار حافلة المدرسة تحت البيت، ونعرج عليها فى الكبر عندما ننزل من السيارة أمام عيادة الطبيب أو حين نصل إلى مكان العمل. هى أسماء درسنا مسيرة أصحابها فى حصص التاريخ أو قرأنا أحيانا عنهم فى مقالات عن فترات تاريخية لم نعشها.
***
ما الأسماء التى سوف تحملها الشوارع بعد خمسين سنة، سؤال يرافقنى فى السنوات الزخمة الأخيرة، فأتخيل مثلا أن أمر مع أحد أحفادى فى المستقبل من زقاق يحمل اسما سوف أحكى عنه لطفل لا فكرة لديه عن الإعصار الذى مر بالمنطقة حين كنت أنا، أى جدة الطفل فى المستقبل، أمسك أنفاسى كل مساء مترقبة أخبارا عن بيروت أو حلب أو القدس. من هم أبطال اليوم، أولئك الذين سوف يسأل عنهم أجيال ستسكن الشوارع من بعدى وبعدكم؟
***
من هم أبطال الأغانى الملحمية التى سيسمعها أولاد وبنات المدارس بعد عقود، وهل سيرددونها كما يردد أطفال أسمع غناءهم كل صباح فى طريقى إلى العمل أغنية «موطنى»؟ أرجعت أغنية موطنى، والتى عادت إلى الحياة منذ أسابيع مع اتخاذ العراقيين شوارع مدنهم منصات لمطالبهم، أسئلة عن أصل الأغنية وعن الفترة الزمنية التى كتبها فيها الشاعر الفلسطينى إبراهيم طوقان فى ثلاثينيات القرن الماضى.
***
هل أراك سالما منعما وغانما مكرما، سؤال كل صباح فى منطقة عربية لا سلام فيها، والحياة والنجاة والهناء والرجاء يقول الشاعر فأذرف الدموع على ناصية شارع يحمل اسم شخص ربما كان بطلا قوميا فى أحد الأيام. تحتاج فترات الأزمات المعقدة إلى قدرة جبارة تسمح لأحدنا بأن يأخذ مسافة من الأحداث اليومية ليحاول أن ينظر إلى الصورة الأكبر. قد يكون هناك فعلا حكمة عند كبار السن حين يزهدون من الحياة ويتوقفون عن التفاعل المستمر مع كل ما حولهم. «كله بيعدى» يقول المصريون، أى إن الأحداث والأيام سوف تمر، وعجلة التاريخ سوف تستمر بالدوران رغم كل ما نرميه فى طريقها.
***
أتخيل التاريخ وكأنه نواعير مدينة حماه الشهيرة، تدور وتدور غير آبهة بما حولها، القافلة تسير كما يقول المثل، وها هى خلال سيرها ترمى من على متنها كل من لا يقوى على التمسك بطرف منها يقيه السقوط. أتخيل بطلا سوف يسمى شارعا على اسمه فى المستقبل يتمسك بإحدى شفرات طاحونة هواء قديمة فيدور معها، يصعد إلى السماء وينزل لكنه لا يريد أن يقع. كم من الوقت يستطيع أن يصمد فى مواجهة الهواء والشمس؟ ربما من يسمى الشوارع تيمنا بهم هم من تمسكوا لأطول فترات ممكنة بأجنحة الطاحونة. وماذا عن البقية؟ من سقطوا من أعلى الطاحونة فهووا على الأرض وتحولوا إلى فتات؟ ألا يتذكرهم أحد؟
***
أدندن أغنية موطنى رغما عنى فأنا لا أحب الأغانى الملحمية ولا القومية ولا أحب استحضار عواطف لا أعرف كيف أفسرها سوى أنها تحفر ثقبا فى قلبى. من الملفت أن من أول التغييرات التى تأتى بها الأنظمة السياسية الجديدة هى أسماء الشوارع والأغانى الوطنية، تلك التى يتهيأ للأنظمة الجديدة أنها سوف تبنى عند الشعب شعورا بالانتماء، ليس للبلد إنما للنظام السياسى. ولذلك فإن أغنية كأغنية «موطنى» تربكنى، فهى ترتبط بمكان يريد أى شخص أن ينتمى إليه دون أن يعرف تماما أين هو.
***
ما هو ذلك المكان الذى فيه جلال وجمال وسناء وبهاء فترانى وفية له فى علاه؟ مكان أتوق إليه ولا أجده، أشتاق إليه ولا أتذكره، هو مكان تحمل شوارعه أسماء أشخاص أعرفهم وأحبهم، لا أعرف إن كانوا أبطالا قوميين إنما هم أشخاص أحبوا ما حولهم وزرعوا فيه زهورا وأشجارا لا يمكن اقتلاعها. هم رجال ونساء فردوا قلوبهم فوق من أحبوهم ليقوهم وهج الشمس، هؤلاء هم من سوف أسمى الشوارع على أسمائهم، شوارع أمشى على أرصفتها فأتذكر أمسية صيفية قرأنا فيها الشعر من على شرفة بيت دافئ، وأتذكر صباحا شتائيا رأيت فيه قوس قزح من خلف الشباك فابتسمت لأنه ذكرنى بأشخاص شعرت يوما أنهم يضفون ألوان الأصفر والأحمر والوردى على حياتى. سوف أسمى الشوارع على أسماء من أحب، فأمشى وأمد لسانى للشمس حين تختفى خلف السحاب، هى تلعب معى لعبة الاستغماية المحببة عند الأطفال، وأنا أدندن اسم مكان لا أعرف تحديدا أين يقع إنما أعرف بشكل فطرى أنه يريدنى أن أعتبره موطنى، هناك قرب شجرة زرعها شخص أحبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved