العولمة والأمْوَلة وتدفق الثروة والجهد والمال جنوب ــ شمال

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 11:05 ص بتوقيت القاهرة

يُصَوّر عالم اليوم على أنه قرية صغيرة، ولكن كيف تُشكَّل هذه القرية فى كنف عولمة الليبرالية الجديدة المتوحشة؟ ففى ظل هذه العولمة ازداد الاستقطاب بين الغنى والفقر، بين بلدان بعضها وبعض وفى داخل كل بلد، وذلك بازدياد تدفق رءوس الأموال والثروات من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال بمعدلات أسرع بكثير مما كانت عليه أيام الاستعمار القديم الصريح، ولكن الأكيد أن عملية تسهيل تدفق الثروات الآن أصبحت أكثر حنكة ودهاء وأقل كلفة لدول الشمال من تجييش جيوش استعمارية قد تثير الخلافات العسكرية فيما بينهم وتثير عداوة شعوب الجنوب وتستفز مشاعرهم الوطنية.
إن ما دفع «قريتنا الصغيرة» دفعا إلى هذه «العولمة» المفرطة فى عدم الإنصاف وعدم التوازن، هو أكثر من أربعة عقود من تطبيق سياسات وسَن قوانين اقتصادية ترسخ فلسفة الليبرالية الجديدة من خلال رضوخ كثير من بلدان الجنوب لشروط قروض وبرامج صندوق النقد والبنك الدوليين واتفاقيات منظمة التجارة العالمية واتفاقيات استثمار وتجارة ثنائية (بالمناسبة أى اتفاقية بين دولة نامية منفردة والاتحاد الأوروبى المكون من 28 دولة تسمى أيضا «ثنائية»).
ومن أهم مشروطيات الصندوق والبنك التى شكلت العولمة كما نعيشها اليوم كانت قوانين البنوك المركزية فى بلدان الجنوب والتى ترسخ ما يسمى بالحساب الرأسمالى المفتوح، وهذا ببساطة يعنى عدم وضع أى ضوابط على حركة وتدفقات رءوس الأموال (وبالأخص إلى خارج البلاد) وإن كان ما زال هناك بعض القيود متبقية، فعادة ما تزيلها اتفاقيات الاستثمار والتجارة (المسماة) ثنائية بين دول الشمال القوى والجنوب الضعيف. وكذلك سُنَت القوانين لتشجيع ما يسمى بالأمْولة (financialization) التى تحفز على المضاربة على أى شىء وتحويل كل شىء مادى ذى منفعة للبشر (حتى إن لم يكن ممكن نقله كالعقارات مثلا) إلى قيمة نقدية/ مالية تتعاظم بالمضاربة والريع والاحتكار، وبذلك يمكن، ومن خلال «الحساب الرأسمالى المفتوح»، أن تتدفق ثروات ورءوس أموال بلدان الجنوب إلى الشمال. ولكن فى نفس الوقت الذى يُسمح فيه بحركة رءوس الأموال بدون قيود، تُوضع كل القيود لمنع تدفق البشر والأشخاص من الجنوب إلى الشمال، بل تُدفَع دول الجنوب لحراسة حدود الشمال، ولا يسمح بانتقال البشر من الجنوب إلى الشمال إلا بما يمكن وصفه بتهجير أدمغة جنوب ــ شمال.
***
ويفيد تقرير التجارة والتنمية لهذا العام الذى أصدرته الأمم المتحدة فى أواخر شهر سبتمبر الماضى، تحت عنوان «تمويل اتفاق أخضر عالمى جديد»، أن التدفقات المنفلتة لرءوس الأموال الخاصة تؤدى إلى تدفق واستنزاف رءوس الأموال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، ويرجع ذلك لعدة أسباب، منها محاولة الدول النامية المحافظة على حد أدنى من احتياطيات النقد الأجنبى لدى بنوكها المركزية لحماية اقتصاداتها من التقلبات العالمية، فى ظل العولمة والاندماج المالى المتزايد، وذلك باقتراض نقد أجنبى بكميات كبيرة وأسعار فائدة مرتفعة وهذا بالطبع يؤدى إلى انتقال الأموال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، على الأقل بقيمة الفوائد على الاقتراض. وفى تحليل حديث لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لبيانات 16 بلدا ناميا، قُدَرت رءوس الأموال المتدفقة إلى خارج تلك البلدان من هذا المصدر، خلال الفترة من 2000 ــ 2018، بنحو 440 مليار دولار سنويا، أى ما يعادل 2.2% من الناتج المحلى الإجمالى لهذه البلدان (ما يقرب من ضعف الاقتصاد المصرى).
وأيضا يرجع استنزاف رءوس أموال بلدان الجنوب إلى تدفقات مالية غير مشروعة عن طريق التملص الضريبى للشركات متعددة الجنسية، وذلك باعتبار فروع تلك الشركات كيانات مستقلة فى كل بلد واعتبار المعاملات التجارية الخاضعة للضرائب بين فروع تلك الشركات فى البلدان المختلفة معاملات منفصلا بعضها عن بعض، وفى آخر الأمر تعظم تلك الشركات من أرباحها على مستوى العالم بينما تتملص من دفع الضرائب فى الدول التى تولد أرباحها فيها. ويفيد الأونكتاد أن التدفقات المالية غير المشروعة للشركات متعددة الجنسية، والتى يُحرَم منها البلدان النامية، قد تصل إلى 200 مليار دولار سنويا.
وكذلك يرجع استنزاف رءوس أموال بلدان الجنوب إلى الرقمنة المتزايدة للأنشطة الاقتصادية وعدم تحصيل ضرائب على المعاملات الرقمية لشركات الإنترنت التى ليس لها وجود مادى أو قانونى فى دول الجنوب. فهذه الشركات تتعامل فى مئات المليارات من الدولارات وقد تبيع منتج من بلد نامٍ لمستهلك من نفس البلد وتستولى على عمولة وساطة ليست بالقليلة (مثال على ذلك السياحة الداخلية فى مصر)، وهذا بطبيعة الحال يؤدى لتدفق الأموال إلى خارج تلك البلد بدون أن تدفع الشركة الرقمية أى ضرائب على أرباحها لحكومة البلد المنتج والمستهلك.
***
ولمعالجة تلك المشكلات، يُقترح اعتماد نظام دولى موحد للضرائب يأخذ فى الحسبان أن أرباح الشركات متعددة الجنسية تتولد فى بلدان عدة وليس فى كل بلد على حدة، على أن توزع إيرادات تلك الضرائب بين الدول التى تتولد فيها الأرباح. وكذلك يجب إعادة النظر فى المعايير والقواعد الدولية المعمول بها حاليا بخصوص ضرائب الشركات وذلك لتحديد الولاية القضائية التى لها حق فرض الضرائب، وتسوية الصفقات العابرة للحدود بين مختلف الكيانات متعددة الجنسية، ولتقدير القيمة المالية للمعاملات عندما تكون الأصول غير ملموسة ماديا وتكون البيانات (من بلدان مختلفة) مصدرا لتوليد تلك القيمة. أى أن الإنصاف الضريبى فى الاقتصاد الرقمى يحتاج تطبيق مفهوم التواجد الاقتصادى المعنوى (وليس بالضرورة المادي) فيما يتعلق بإيرادات المبيعات أو أية معاملات تجارية.
ومن الضرورى فرض ضوابط على حركة وتدفقات رءوس الأموال كأداة أساسية للسياسات الاقتصادية، إذا كان هناك جدية للوصول إلى التنمية المستدامة. وأن توضع تلك الضوابط لدى الجهات المرسلة والمستقبلة لرءوس الأموال على حد سواء، بدلا من فرض ضوابط أشد صرامة من جانب واحد فقط. وكذلك يجب استبعاد النصوص المتعلقة «بالحساب الرأسمالى المفتوح» من اتفاقيات التجارة والاستثمار الإقليمية والثنائية، أو أن تشمل هذه الاتفاقيات ضمانات تعطى البلدان الحق فى تنظيم وإدارة تدفقات رءوس الأموال.
ويقدر الأونكتاد تدفقات رءوس الأموال من الجنوب إلى الشمال من المصادر سابقة الذكر بنحو 680 مليار دولار سنويا (أقل قليلا من ثلاثة أضعاف الاقتصاد المصرى)، وبدلا من تسرب هذه الأموال إلى الشمال، يمكن استخدمها لتمويل «الاتفاق الأخضر العالمى الجديد» وتحقيق أهداف التنمية المستدامة فى العالم النامى.
النسخة الإنجليزية للتقرير https://unctad.org/en/PublicationsLibrary/tdr2019_en.pdf، الترجمة العربية ستُرفع لموقع الأونكتاد قريبا.

هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved