حُـرِّيَة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 13 ديسمبر 2019 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

في إحدى الدراسات المُثيرة؛ اكتشف الباحثون أن الببغاواتَ التي يقتنيها الناسُ، ويستمتِعون بمُشاهدتِها وهي تُرَدّد النغماتِ وتحاكي الأصواتَ؛ دون أن تفهم بطبيعة الحال معناها؛ تستاءُ مِن القيدِ إلى درجةٍ تدفعها إلى نَتف ريشِها ما بقيَت أسيرة. رغم توفير الطعام والدفيء والرعاية، ورغم أن هذه الطيورَ لا تملك وظائفَ مَعرفية عليا تسمح لها بإدراك حقيقةِ وضعِها؛ يظلُّ غيابُ الحريَّة عنها مُؤَرقًا.
***
الحُريَّةُ في أبسطِ تعريفاتِها هي القُدرةُ على الفِعل، وكذلك على الامتناعِ عن الفِعل ما أراد المَرء. يُقالُ إن حُريَّة الفَرد تنتهي لدى الحدّ الذي يبدأ عنده انتهاكُ حُريَة الآخر؛ أمرٌ في ظاهِره بسيطٌ، لا يحمل التباسًا ولا خلطًا؛ لكن التطبيقَ قد يتعثر في تعقيدات لا نهاية لها، وتغدو الحدودُ مُشَوَّشة.
***
الحُرِّيَة في قواميس اللغة العربية هي الخلُوص من الشَّوائب؛ هي حال كائن حيّ لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة، ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته. الحُرُّ خلاف العبد وحرر العبد أي أعتقه، وحرر الوطن أي طرد المحتل، أما حرر رسالة فبمعنى كتبها. إذا تصرف المرء بلا تكلُّف أو احتراس؛ فقد تصرَّف بحُرِّية، وإذا تَحرَّر ذاتيًا مِن كُل ما يُكبِّل التصَرُّفات والأفعال ويُعطِّل الاختيارات؛ فقد مُنيَ بالاطمئنان والسلام الداخليّ.
***
اضطلاع المرءِ بمسئولية ما لابد وأن يقترن بتمتعه بالحرية والإرادة الكاملتين، وليس لسُلطة تنزع عن الناسِ حُريتَهم وتُنكر عليهم مواطنتَهم؛ أن تُطالبَهم بالالتزام تجاهها وصِيانة العقدِ الاجتماعيّ. ليس لسُلطةٍ تسلِب الفردَ حقوقَه الأصيلةَ، أن تُجبِرَه مثلًا على دَفع الضرائبِ أو التبرعات.
***
أهدت فرنسا تمثالَ الحُريَّة إلى الولاياتِ المُتحدة الأمريكية عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين، بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الأمريكية. التمثال في الأصل يجسد فلاحةً مصرية بيدها مشعل، وكان مُقررًا وضعه في مدخل قناة السويس، ثم اعتذر الخديو اسماعيل بسبب ارتفاع التكاليف، ومِن ثمَّ استقرَّ التمثالُ على خليج نيويورك، كما استقرَّت القيود تحت قدميّ حاملة المشعل رمزًا للتحرُّر.
***
”سبارتاكوس“ أحد الأفلام المَلحمية التي خلَّدت معنى الحُرِّيَة، ووقوف الرجال المَغلولين بأصفاد الحديد؛ ليزعق كلٌّ منهم في وجه السادة الباحثين عن قائد التمرد: "أنا سبارتاكوس"، مَشهدٌ يعلن حجم التضحيات اللازمة. أخرج العملَ ستانلي كوبريك مَطلع الستينيات، وقام ببطولته كيرك دوجلاس ولورانس أوليفييه، وقد استلهَم هوارد فاست أحداثَ روايته التي بُنِيَ عليها الفيلم مِن ثورة العبيد الثالثة التي قامت في عهد الإمبراطورية الرومانية، وقُورِنَت هذه الثورةُ بثورةِ الزنج التي قادها عبد الله بن علي إبان الخلافة العباسية، طامحًا بدوره إلى تحرير العبيد؛ المَجلوبين قسرًا مِن أفريقيا إلى العراق. أخفق القائدان في سعيهما نحو الحُرِّيَة، لكنهما تركا بذرتَها في سواعدِ مَن أتوا لاحقًا.
***
ربما يكون كتابُ "عن الحُرِّيَة" لجون ستيوارت ميل، مِن أشهر الأعمال الفكرية في هذا الصدد. ما إن يأتي حديث عن الحرية ومَفهومِها؛ حتى يقفز الكتابُ إلى الذاكرة رغم مرور عقود على إصداره. ثمَّة حرياتٌ مدنيَّة تتعلق بحقوق الفرد الأساسية؛ منها حرية التّعبير والمُعتَقد. يحمي القانونُ هذه الحُرِّيَات في الأحوالِ العادية ضدّ أي تدخُّلات، سواء كانت مِن المُجتمعِ أو مِن السُلطة، أما في أزمنةِ الانحطاط، فيصبح القانون ذاته أداة بطش.
***
أُنشئ مَقهى الحُرِّيَة في ثلاثينيات القرن الماضي بباب اللوق على أيدي يوسف وميخائيل ونيقولا، وحظي بشهرة واسعة مع توافد الجاليات الأجنبية والجنود الانجليز، فحقق أرباحًا كبيرة، ويُقال إن بعضَ الضُباط الأحرار كانوا ضِمن روَّاده، إضافة لعددٍ مِن الفنانين مثل زكريا أحمد، ورشدي أباظة، وشكري سرحان. ظلَّت أسعار المَقهى في مُتناول الطبقةِ المُتوسطة بتنوعاتها، وبقي المكانُ المُمَيَّز بصالته الواسعة؛ عامرًا بالزبائن لفترات طويلة، كما جذب صُنَّاع الأفلام على مَرِّ السنوات؛ فظهر على سبيل المثال في فيلم ”فوزية البرجوازية“ بمنتصف الثمانينيات؛ ملاذًا لليسار.
***
لمُفردة "الحُرِّيَة" جاذبيةٌ هائلة، لمسةٌ واحدةٌ تكفي ليأتي الفضاءُ الإلكترونيّ بما لا يُحصَى مِن نتائج البحث؛ أقوال عن الحُرِّيَة مِن الشرق والغرب، وأشعار وحِكَم ومأثورات. ثمَّة كلماتٌ دُوِّنَت عن مارتن لوثر كينغ تقول: "لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت". العاقبةُ للحَقِّ وَخيمة؛ فانحناءة ومطية وانكسار، ليست إلا مُرادفات للإذلال والهَوان والعبُودية. يُعطي كينج بُعدًا إضافيًا للحرية: "لست فقط مُحاسبًا على ما تقول، أنت مُحاسَب أيضًا على ما لم تقُل؛ حيث لزمَ أن تقول". الحُرِّيَة قول ما وَجَب في وقتِه؛ لا بعد فوات الأوان؛ لكن كثيرَنا يلتزم الصَّمتَ في عسيرِ المَواقف وكأنه لا يرى ولا يسمَع، ويُشيح بوجهِه مُتصوِّرًا أن الامتناعَ عن إبداءِ الرأي يكفي. كثيرنا ينسى أن قَولةَ حَقٍّ في وَجه سُلطان جائر لها أكبر الأثر؛ ولو لم تُسفِر عن تغيير فَوريّ، ولا غرابة أن يقولَ كينج أيضًا: "في النهاية لن نذكر كلماتِ أعدائِنا، بل صَمتِ أصدقائنا". أظننا جميعًا سوف نذكر كليهما؛ الصَّمتَ والكلامَ، فبصماتهما مطبوعة على صفحاتِ تاريخِنا الشخصيّ والجَمعيّ؛ الأصدقاءُ بتقاعُسِهم وتخاذلهم، والأعداءُ بانتقامِهم وتماديهم وصغائرهم. ناضل كينج لإنهاء التمييز العنصريّ ضد أصحاب البشرةِ السمراء، ونال أرفعَ التقديرات، واغتيل بنهاية الستينيات؛ فيما عاشت كلماتُه حُرَّة.
***
يقول أحمد شوقي في بيته الشهير: "وللحُرِّيَة الحمراءِ بابٌ بكُلِّ يَد مُضرجة يُدَقُ". البيتُ يُعارض هتافاتَ لا أوَّل لها ولا آخر؛ انبثقَت مِن أفواهِ الثُّوَار إذ هم يَصيحون في مُواجهةِ جَحافلِ الطُغاة المُدجَّجَين بالسلاح: سِلميَّة. ثَورَةٌ سِلميَّةٌ قد تكون؛ لكن شوقي يُقدَّم الحُرِّيَة في ثَوبٍ هو أبعد ما يكُون عن الوداعةِ والمُسالمَة، والحَقُّ أن البيتَ يستدعي إلى الذاكرةِ لوحةَ "الحُرِّيَة تقود الشعبَ" التي رَسَمها دو لا كروا مُجَسِّدًا زَحفَ الشَّعبَ المَقهور لاسترداد حُرِّيَته وكَرامته. اللوحةُ الآن مِن مُقتنيات مَتحف اللوفر، والمرأة التي ترمُز إلى الثورةِ الفرنسية ترفع الرايةَ بيدّ وتُمسِك بندقيةً بالأخرى، بينما ثيابها مُمَزقة ومِن حولِها تدور رحى المَعركة.
***
في قصيدتِه "أنت في وَطن ديمُقراطي"، وضعَ أحمد فؤاد نجم شرطًا صارت الحُرِّيَةُ به مَجروحةً: "أنت بتنعم بالحُرِّيَة بسّ بشرط تكون مِطاطي". الشرطُ مُضحِك مُبكٍ؛ فمَن طأطأَ رأسُه لا يُمكن أن يكونَ حُرًّا، وأكم مِن شُروطٍ جَرَّدَت قيمًا كُبرى مِن جَوهرِها، وتركتها باليةً جَرداء.
***
دَرجنا على الحديثِ عن هَوامِشٍ للحُرِّيَة، تضاءَلت واحدًا وراءَ واحدٍ حتى تلاشَت؛ فلا هامش ولا رُكن ولا ثَغرة، ولا مَفَرّ مِن الاعترافِ بأن حُرِّيَةً مَنقوصَةً لا يُعَوَّل عليها في إحرازِ أيِّ نَصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved