زمن التفاهة

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 13 ديسمبر 2019 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

تحدثت فى مقالى السابق عن «فن صناعة الوعى الغبى»، وخرجنا بنتيجة أنه لأسباب كثيرة حدث ضعف أكاديمى ومهنى شديد ألمّ! بمثقفينا الحاليين مقارنة بحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وأننا فى الشرق الأوسط من الصعب علينا التفريق بين الفيلسوف والصحفى المبتدئ، وأن الصوت الأعلى فى مجتمعاتنا هو صوت الأغبياء.
فى هذا المقال أتحدث عن كيف أثر ذلك على مجتمعاتنا، فصارت التفاهة تحيط بنا من كل جانب، فمصطلح التفاهة الذى نسمعه ونقرأه طوال اليوم يثير سؤالًا مهمًا، هل هناك تعريف واضح للتفاهة؟!.
فى العشرينيات والثلاثينيات وحتى بداية الستينيات من القرن الماضى كان مفهوم التفاهة أو تعريفها هو «فشل فى تأويل (تفسير) ما هو (رصين) إما لضعف عند التافه فى قدرته على فهم ما هو رصين أو علمى أو لعدم رغبته العودة للجذور (بطريقة أكاديمية أو علمية)، أما التفاهة المعاصرة فالقصد منها تحويل الأمور الجادة إلى حالة من التفاهة والسطحية ليس إلا، ولرصد هذه الحالة لابد أن نلتفت ونحلل ظاهرة الأجهزة الذكية والتى صارت بين يدى الغالبية العظمى من الشباب وبعض أنصاف المثقفين المنبهرين بها حيث يستلذون بإنهاء دور المثقف الأكاديمى الجاد، باعتبار أن الشعبوية أو الشعبى قد «برز» وأخذ مساحته، وصار له منبره على طريقة الإعلام الجماهيرى الشعبوى «منبر من لا منبر له». لكن مشكلة التفاهة على السوشيال ميديا إنها ليست نسخة تالفة من نص جاد، كما ذكرنا فى الحقبة الثقافية المصرية السالفة، ولا فى موجة الشبان الوجوديين فى فرنسا بعد تحول الفلسفة «السارترية» نسبة إلى الفيلسوف جان بول سارتر إلى موضة اختصرت حينها بنوع من اللباس وتسريحة شعر وفلتان السلوك، وصارت الأرصفة تشهد شبانًا وفتياتٍ يرتدون أزياء بالية تافهة لا قيمة لها، ولا تعبر عن فلسفة سارتر الوجودية بكل نسخها «الدينية»، أو كير كغارد وغابريال مارسيل اللذان ناديا بوجودية إيمانية أى وجود الإنسان ووجود الله، والفارق بينهما والعلاقة التى تربطهما سلبًا وإيجابًا، وأيضًا لا تعبر عن الوجودية اللا دينية لدى سارتر نفسه وهيدغر، لكن التفاهة فى هذا المجال أن الشباب الذين نسبوا أنفسهم لهذه الفلسفة كان تمردهم مراهقًا استخدموا فيه بعض أفكار الوجودية لكن مستواهم الفكرى وُصف من محللى هذه الحركة بالتفاهة وأكدوا فى أبحاثهم الميدانية أن هؤلاء الشباب لا يستطيعون العيش بلا تفاهات.
***
وبالعودة للسوشيال ميديا مبدئيًا نجد أنها اكتسحت كل هؤلاء، فهى طوفان جارف لا أساس علميا له، ومعظم ما يقال على شاشاتها تافه، وقد وُصفت بأنها «محاولة تأصيل جذر التفاهة أو البحث عن سببه وعلته». قال بعض المحللين العالميين بهذا الشأن إن سبب هذه الظاهرة (التفاهة) أنها ظهرت بسبب انهيار الأساسات التى يقوم عليها التفكير العلمى مثل رفض الخرافة والبحث عن الأسباب الحقيقية للظواهر بدلًا من نسبتها للجن والشياطين، هذا فضلًا عن تفتت أو إهمال المراجع الأصيلة التى كان لا غنى عن الرجوع إليها فى أمر يراد بحثه، بالإضافة إلى ذلك محاولة كل شخص شبه مثقف أن يعطى ذاته عمقًا أكثر مما يستحقه، لكن هناك بعض المحللين قالوا إن السبب الأول هو صعود وسرعة التقنية والتكنولوجيا، وقد بدأت هذه الظاهرة (التفاهة) منذ أن انبهر العالم بـ «القنبلة الذرية»، حينها صرح الفيلسوف المعروف هيدغر بأن هذه التقنية والتى بدأت بالقنبلة هى «ميتافيزيقا العصر»، بمعنى أن على الإنسان أن يتبع هذه التقنية كما كان يتبع دينه من قبل انفجار القنبلة الذرية، وكتب مقالًا يشرح فيه فلسفته قائلًا «إننى أحاول أن أفهم ماهية التقنية وكأنها الطريق للسعادة النهائية الأبدية للإنسان الباحث عن إله».
ثم يقول أيضًا إن القنبلة الذرية هى ظهور أو بداية لسر أكثر عمقًا بكثير يسميه «الحدوث» وبالطبع هنا مشكلة حقيقية فى فهم التقنية ومحاولة تحويلها كبديل للدين والفلسفة. وهكذا ظهر عصر الحداثة ثم ما بعد الحداثة وفُتحت مناقشات ملخصها أن يتجاوز الإنسان الفنون والعمارة والفلسفة والأدب.. إلخ، وهكذا جاء هابرماس بكتابه «العلم والتقنية كأيديولوجيا» أى دين وعقيدة العلم والتقنية، وقد اعتبر كثيرون من النقاد العالميين أن هذا التوجه (التكنولوجيا الدين) هو حفر لنقض العمق والجذور والأسس العلمية واستبداله بفن استبطانى، يلغى ويدمر جميع الحدود بين الثقافة الرذيلة والرفيعة، والثقافة الشعبية والأكاديمية كما يميع الحدود بين الفن فى ذاته والتجربة اليومية.
***
الطامة الكبرى أن مستخدمى السوشيال ميديا تبنوا هذه الظاهرة التى اعتبرت أن الميتافيزيقيا هنا والآن، وميعت الحدود بين العلم والفن من ناحية والتجربة والخبرة الشخصية من الناحية الأخرى، وقد انقسم هؤلاء إلى قسمين: الأول أشخاص يجيدون التثقيف والحديث ولهم مسارهم العلمى أحيانًا أو أقل القليل منه والذى يمكن أن يكون مفيدًا إلى حد ما، وذلك لأن معظم من يستخدمون السوشيال ميديا من الشباب ثقافتهم ضحلة ويمكن أن يتجاوبوا مع هذا الاتجاه ويمكن أن يكون مفيدًا لهم فى إثارة قضايا مهمة بل ويمكن من خلال حوار مثل هذا أن يبدأوا رحلتهم نحو تفكير منطقى وعلمى إلى حٍد ما، لذلك لن أتعرض لهم فى مقالى هذا. لكن نقدى هنا بالأساس يركز على «النجوم التافهين» الصاعدين على هذه المنابر طارحين أنفسهم كمؤسسين وقدوات للأجيال الحالية والأجيال التى ستأتى لاحقًا بعد قرون من الزمان. أولئك ينبتون بلا جذور ولا أساس، ويغتبطون بالتوجيه والحديث بتوافه الأمور، ويغترون بالجلبة المحيطة بهم من أناس تافهين نظيرهم، وأنتجت هذه الظاهرة على السوشيال ميديا «قلة الأدب» و«تعميم الشتيمة» والعبث بأخلاق المجتمع وللأسف تتحدث هذه الأسماء من خلال المنابر والنوافذ على أنها تدعو لقيم معينة، وأنها تحمى قيم الأصولية سواء كانت دينية (فقهية أو لاهوتية) أو علمية أو فنية أو أدبية، وعندما تقرأ لهم تعليقاتهم على مقالات مهمة تشعر بحالة التجهيل المنظم، فقد صارت السوشيال ميديا بديلًا للمراجع والوثائق والأصول العلمية والدينية الحقيقية ومفهوم التطور لهم، وهذه ظاهرة لا يمكن تشخيصها، إلا بوصفها «تفاهة». والتفاهة هنا ليست شتيمة بل وصف محايد مؤدب للأشخاص الذين يتدخلون فى ما لا يعرفون، وتعرف المعاجم والقواميس مصطلح التفاهة بأنه مشتق من «تفه» و«تفه الطعام أى صار بلا طعم أو ذوق»، وقد وصف من يمارس مثل هذا الفعل بأنه «التافه الذى يتكلم بأمر العامة».
هذه هى ظاهرة السوشيال ميديا التى لا ترتبط بمعنى، ولا تحقق غرضًا إنما حوارات حول موضوع يعلقون عليه بلا عودة لمراجع أو مفاهيم صحيحة بل كل شخص يعبر عن ذاته بما يحبه وما يكرهه فى سطحية شديدة، والواجب علينا جميعًا أن نؤسس لوعى يجعل لهذه الثرثرة حدودها الطبيعية، لأن غزوها، وتحويل كل شيء إلى تفاهة متداولة ومتبادلة بمنابرها يفرغ كل عمق فى هذا العالم، ولأن الجمال بكل مجالاته الفنية والأدبية واللغوية لا يمكن أن يأتى إلا عن طريق جذر، وأن يُسقى جذعه بعمق وإطلاع وفهم، لكن أن يتصدر كل شخص جاهل سطحى لإصدار النتائج والحقائق، وأن يضع نفسه ملهمًا ونبراسًا ودرسا وأساسًا فهذه طامة كبرى، تدمر كل الجماليات التى بين أيدينا، إنه انحطاط وانهيار وجنون، وإحاطة بكل ما حققه الإنسان من أدب وثقافة وعلم ولاهوت وفقه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved