كانت شرفته تطل على ميدان التحرير

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 14 يناير 2012 - 10:05 ص بتوقيت القاهرة

مرت سنة، وهى ليست بالفترة الطويلة، ولا بالقصيرة، لكنها تكفى لكى تصير فى الأمور أمور، دون أن تشى بكل ما يحمله المستقبل من مفاجآت.. منذ يناير الماضى وجد بعض الناس أنفسهم فى خضم الأحداث ومنهم الصحفى المخضرم أحمد لطفى الذى كان قد تحول إلى أحد معالم وسط البلد والمأخوذين بفتنتها التى عفى عليها الزمن، مسحة من الجمال البائد التى لا تزال تأسر مريديها جعلته يتلمس طريقه وسط الوجوه الهائمة أحيانا والغاضبة أحيانا.. وجوه المقاهى والمارة التى تلخص الحياة بشكل ودى.

 

وقبل أيام من 25 يناير رحل الرجل عن عالمنا فى هدوء، دون أن يعلم الثوار أو على الأقل بعض من استضافهم فى شقته المطلة على ميدان التحرير منذ عام تقريبا، عندما دخلوا إلى مسكنه هربا من الأمن والبلطجية أثناء غيابه، ففتح لهم الباب وأصبحوا جزءا من حياته لنحو عشرة أيام، ثم عندما انفضت الغمة تركوا كل شىء كما كان دون أن يعبث أحدهم بأغراضه، احترموا خصوصيته واحترم هو توقهم للحرية. تأثرت عيناه بالأدخنة والغازات المسيلة للدموع، لكن حماسته للشباب لم تفتر وكذا ميوله الليبرالية، وظل متنقلا بين قهوة الحرية وزهرة البستان وبار ستيلا وقد نسج لنفسه شبكة من العلاقات ومصادر المعلومات الضرورية لصحفى تتلمذ على أيدى رواد الإعلام الفرانكوفونى فى مصر منذ ستينيات القرن الماضى، فعلى المقهى لا ينقطع سيل الأخبار والتعليقات ولا تنقطع الصلة بالشارع..

 

يحكى مثلا عن «زهرة البستان» وكيف كان مقهى صغيرًا لا يحتمل أكثر من أربع مناضد وكيف كان يأتى إليه بعض مثقفى الستينيات، يتركون مقهى ريش المجاور ليدخنوا الشيشة ويلعبوا الطاولة وكيف توالت الأجيال الإبداعية عليه خلال التسعينيات، وفى موضع آخر يتحدث عن خصوصية مقهى «الحرية» الذى أنشئ فى ميدان الفلكى سابقا سنة 1936 على أنقاض منزل أحمد عرابى.. كانت الحكايات والطرائف تتوالى فى حديثه، فتارة نعرف أن صلة قرابة تربطه بالزعيم مصطفى كامل، فنتفهم ميراثه الليبرالى المتجذر فى شخصيته، وتارة أخرى يعلق على التنافس بين أم كلثوم وأسمهان مضيفا أن مصدره كان أحد جدوده الذى كتب أشعار الأغانى وزامل زكريا أحمد.. ثم لا يجد ملعقة صغيرة ليقلب القهوة فيستعيض عنها بقلمه، ويستكمل ما بدأه، سارحا فى الملكوت.

 

«متى ستروى فى كتاب ما رأيته من نافذتك فى التحرير؟» أكرر على مسامعه السؤال على مدار السنين، وقبل ثورة يناير بكثير، فيلخص أهم الأحداث بسهولة ويسر كمن يحفظ التاريخ عن ظهر قلب ويتخذ منه موقفا واضحا يتفق وقناعاته، من العقار رقم خمسة فى ميدان الخديوى إسماعيل سابقا (التحرير حاليا) سمع أصداء «يحيى النحاس باشا»، آخر زعماء الوفد قبل الثورة عندما كان الحزب هو الأكثر شعبية، وقطع المتظاهرون التيار عن الترام الذى كان يمر وقتها أمام البيت.

 

ثم رأى الشعب يهتف قبل ثورة 1952 بشهور «عاش الملك فاروق»، واضطر الموكب لتغيير مساره بسبب شدة الزحام، وتلى ذلك حريق القاهرة فى 26 يناير عندما التهمت النيران مكتب وكالة السفر البريطانية المجاور، وكان يتذكر أيضا حركة الطلاب فى 1968 حين وجهت انتقادات علانية لناصر وكذا انتفاضة الخبز فى التاسع والعاشر من يناير عام 1977، وسلسلة من الجنازات التى ألهبت مشاعر الجماهير بفقد جمال عبدالناصر وأم كلثوم وعبد الحليم.. نافذته على العالم وحسه النقدى جعلا منه بحق شاهدا على العصر، إلا أنه انسحب فجأة وقرر التنازل الأبدى عن دور الشاهد الهامشى، رفضا لما سيأتى؟ اكتفاء بما رآه وأنعشه؟ تشاؤلا بأنه لم يعد هناك مساحة لتركيبته الكوزموبوليتانية؟

 

هذه التركيبة الغنية جعلته فى الآونة الأخيرة محور اهتمام العديد من مبدعى وسط البلد، فخصص له مكاوى سعيد جزءا من كتابه القادم الذى يتناول بعض قصص ووجوه الثورة، وبدلا من أن يكتب أحمد لطفى بعض فصول التحرير عبر الشرفة سيظهر بصفته «عم أحمد» الصحفى الستينى بالأهرام الفرنسى، ضمن عمل أدبى يصدر بعد وفاته. وفى أول وآخر تجربة له كممثل، شارك العام الماضى فى بطولة أول عمل روائى طويل للمخرجة الشابة هالة لطفى، وجسد مشوار النهاية لأب مريض.. لحظات وداع لعالم مصيره إلى زوال أخذ يتلاشى بين أصابعه، على حد قوله، نوع من التحرر يصاحب المراحل الأخيرة من الحياة، نترفع عن التفاصيل اليومية المؤقتة لندخل مرحلة أكثر تجردا، قضاها هو وسط شباب التحرير ومبدعى وسط البلد، لنراه أيضا فى أفلام تسجيلية تروى ما حدث... فمنطقة وسط البلد وأبطالها ستظل تروى تغيرات المدينة بصولاتها وجولاتها، والقادم أغرب وأشد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved