رَشَّــــــة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 14 يناير 2022 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

 

دخلت امرأةٌ القاعةَ الفسيحةَ التي يتلاقى فيها أعضاءُ النادي للمُسامَرة والترويح، تتلفت حولها وتحمل أكياسًا مُتعدّدة لا يظهر ما فيها، وقد وضعت على وجهِها كمَّامةً تغطي أكثر من نصفِه، ونظارةً شمسيةً كبيرةَ تحجِب العينين وتجعل تمييزَ ملامحِها على درجةٍ من الصُعوبةِ، أما حركتَها؛ فشفَّت عن حيويةٍ مَقبولةٍ، وأعلنت مشيتُها النشِطة ما لا يجاوز انتصافَ العمر.
• • •
دارت في المكان الذي اكتظَّ بروادِه، وبيدها زجاجة من البلاستيك الأبيض لم يتبينها أحد الجالسين أول الأمر، ولم تلبث محتوياتها أن أفصحت عن طبيعتِها؛ فقد شاعت رائحةُ الكحول في الجوّ، وأدرك الجمعُ أنها كانت ترشُّ مُطهرًا خوفًا من عدوى تظنُّها في أثرها. رشَّةٌ والثانيةُ والثالثةُ ثم تصاعد السُّعالُ، واتخذت المرأةُ مقعدًا لدقائق ثم انصرفت كأنها بهذا قد أدت مهمتَها.
• • •
يأتي الفعل رشَّ في قواميس اللغةِ العربيةِ بمعنى قذف ونثر، والرشَّة بمنزلة المرةِ الواحدةِ، أما الرشَّاش فصيغة مبالغة تفيد الكثرة؛ وربما كانت الأكثرَ شيوعًا واستخدامًا.
• • •
لا يقتصر فعلُ الرَشّ على توزيع السوائلِ والغازاتِ وبعثرتها؛ إنما ينسحب على الجوامدِ أيضًا. رشَّةُ مِلح لضبط الطبيخ، رشَّةُ سجائر في المُناسباتِ السعيدةِ أو الحزينةِ، ورشَّاتٌ مُتتابعة من خليطٍ خاص؛ تكلل أمَّ المولودِ الجديد في طوافِها بأرجاء البيت، مَشفوعةً بأهازيج السُّبوع المتوارثة جيلًا بعد جيل. هناك أيضًا رشَّة مَحبَّة؛ يغمُر بها الواحد مَن تمثَّل ودَّهم، ورشَّة حنية؛ يفيض بها من ملأ العطفُ قلبَه ورقَّق وجدانَه، ليس بالضرورة أن يكون المرءُ عاشقًا مُتيَّمًا؛ بل ربما جدٌّ في علاقته بأحفادِه، أو صديقُ عمرٍ تسنّى وصلُه بعدما استحكَمَ فراقُه، أو جارةٌ طال بها المقامُ وصارت في حكمِ فردٍ مِن العائلة.
• • •
الرَشَّةُ في معظم الأحوال السابقة دليلُ سخاءٍ وكرم، فصاحبها لا ينتظر مقابلًا ولا أجبرَه على الرشّ أحدٌ؛ بل جاد عن طيب خاطر. أما لو زار مواطنٌ مصلحةً من المصالحِ الخدَميَّة، فقد اختلف الأمر كُليةَ؛ إذ هو في العادةِ مُطالَبٌ بأن يرشَّ رَشَّةً تسهل له أمورَه، وتُيسر حاجتَه وتُحقِّق بغيته. الإيماءاتُ واللفتاتُ حاضرةً تحاصره، والمعنى بالطبع مفهومٌ؛ فإن لم يفهمْ وجَدَ من يشرح له، وإذا اصطنع السذاجةَ والبراءةَ؛ أتاه مَن لا يستحي.
• • •
رشَّةُ الملح تقي من الحَسَد؛ كهذا يقول الضالعون في المَوروثاتِ والمُعتقداتِ القديمة، المؤمنون بفاعليتها وقوةِ تأثيرها. لا يملكون عليها دليلًا ولا إثباتًا؛ لكنهم لا يتردَّدون في الزَودِ عنها، ورد السُخريةَ ما طالتها، ونفي مُحاولاتِ التشكيكِ فيها بحماسةٍ وصرامة.
• • •
الرَّشُ أنواعٌ وأشكال؛ ليست كلها في نطاقِ الأمان. هناك المَدفع الرشَّاش الذي لم يكُن في ابتكاره خيرٌ أو هدفٌ نبيل، وبنادقُ الرشّ التي تصيد العصافيرَ، وطائراتُ الرشّ التي تُغرِق المحاصيلَ بالمُبيدات؛ مثلما تُغرِق المُستهلكين في مُستنقعاتِ المَرضِ، وترهق أكبادَهم سعيًا للتخلُّص من وطأةِ السُّموم.
• • •
أذكر إعلانًا تلفزيونيًا؛ وكنت ولم أزلْ من هُواةِ حفظِ الإعلانات؛ يُروج لمُبيدٍ فتَّاك، لا تعرف الحشراتُ سبيلًا لمقاومته. المُبيد يتكلم عن نفسِه كما تتكلم شخصياتُ الرسوم المتحركة، مُنبهًا المشاهدين لوجوده، مُتباهيًا بفاعليته الأكيدة: رشَّة واحدة تعرفوا قيمتي.. أنا مين؟
• • •
يقال إن رشَّ المياه عداوةٌ؛ والأصل في المأثور الشعبيّ أن يفُضَّ الناسُ العراكَ باستخدام المياه، أما إذا رمى أحد المتخاصمين بها الآخر؛ كانت فاتحةَ حرب، وإذا سكبتها امرأةٌ على خَصمٍ في مروره أسفل شرفتها؛ بدأت حلقة انتقام متواصلة.
• • •
يدرك مُحبو النباتاتِ كم تطربُ أوراقُها وأزهارُها وتهتزُّ ما تلقَّت رشَّةَ مياهٍ؛ تغسلها من الأتربةِ، وتُحيي بهاءَها، وتعيد إليها رونقَها؛ فإذا لونها يصفو ويرتد إلى الأصلِ الذي طمرَته المُلوِثات. أتابع في شغفٍ رجلًا يأتي بين الحينِ والآخر مُتطوعًا؛ فيضبط الرشَّاشاتِ المَزروعةِ في الأرض، ويحمل خرطومَ المياه، ثم يفتح الصنبورَ ويدور بين الأشجارِ ليرويها. الحديقةُ التي يقصدها ليست مِلكًا له، ولا حِكرًا عليه، والظنُّ أنه قد عثر على ضالتِه وأدرك ما يغيب عن كثيرين؛ فالنفسُ تطيبُ إن أقدم صاحبُها على عملٍ مَنزوعِ الأنانيةِ، قوامُه عطاءٌ غير مَشروط.
• • •
رشُّ المياه أمام الأكشاك والمحلات في أيام اللظى جلبًا للطراوة؛ تقليدٌ عريقٌ لا ينقضي بمرور الزمن ولا ينقطع. تمتصُّ الأرضُ القطراتِ وتتندى بها، وتفقد أثناء عمليةِ الامتصاصِ جزءًا من طاقتِها؛ فتتلطَّفُ حرارتُها وتعكس برودةً مُحبَّبة. تطوَّر التقليد مع الوقت، فتقاسَمت المراوح الكهربائية تلك المُهمةَ الجليلةَ مع البشر، وصارت ترشُّ في دورانها الرذاذَ الخفيفَ فتدغدغ وجوهَ الناسِ وترطّب المكان.
• • •
منذ سنوات خلت، قدم المخرج سعيد حامد "رشَّة جريئة"، والرشة في الفيلم تحمل مستويين من التأويل؛ الماديّ المباشر والمجازيّ المستتر، وبين هذا وذاك تمضي الفكرة؛ فتطرح السؤالَ الأبديَّ حول ما يمكن التنازلُ عنه في سبيل الوصول إلى الهدف، وما لا تتأتى المساومةُ عليه.
• • •
ما بين رشَّة مدفع ورشَّة حظّ، وما بين رشَّة ودٍّ وعربون صداقة أو رشَّة عداءٍ وخصومة، وأخرى يعتزم صاحبها إبطال السحر؛ مسافات شاسعة، تختزلها اللغة في طرفة عين وتبدد تنائيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved