فى غياب العرب.. وفلسطينهم عالم جديد ينشأ مع تفاهم ترامب ــ بوتين

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 14 فبراير 2017 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

وصل دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية من خارج التوقع، والكل يحتاج إلى وقت طويل حتى يستوعب هذا «الانقلاب» الذى يقدم دليلا إضافيا على أننا أمام عالم مختلف تماما عن إرث الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما فى الإدارة كما فى السياسة، لا سيما الدولية منها.

ولأن «النظام العربى» هو الأكثر هشاشة وعجزا عن الإنجاز، فلقد بادر الرئيس الأمريكى الجديد إلى طمأنة بعض «أقطابه»، إما عبر الهاتف (السعودية ومصر) وإما بالتكريم عبر الاستقبال المبكر فى البيت الأبيض (ملك الأردن..).

بل إن الإدارة الأمريكية الجديدة لم تتأخر فى إظهار اهتمامها بالدولة العربية التى نسيها أهلها العرب، اليمن، فلم يتذكرها منهم إلا الطامع فى الهيمنة عليها، أى النظام السعودى فشن عليها حرب التدمير والقتل منذ سنتين إلا قليلا، وهو ماضٍ فيها حتى الآن، وقد استدرج معه بعض دول الخليج العربى، وتحديدا الإمارات العربية المتحدة التى كان رئيسها المؤسس المرحوم الشيخ زايد بن نهيان يتباهى بأصله اليمنى..
ومع أن هذا الاهتمام المتأخر باليمن يمكن إدراجه فى سياق المعركة التى يبدو أن الرئيس الأمريكى الجديد يحاول تجديدها ضد إيران، أو كنجدة للسعودية التى تشن حربا ظالمة ومستحيل الانتصار فيها على أفقر شعب عربى (وربما فى العالم..)، إلا أن هذا الخيار يزيد منسوب القلق فى سلامة القرارات التى يتخذها الرئيس الأمريكى الذى استقبلت فوزه أعظم تظاهرة غضب شعبى فى تاريخ الانتخابات الرئاسية.

وأما إسرائيل ففى الحفظ والصون، والقرارات الأولى للرئيس الأمريكى الجديد توحى بأنها قد تكون الأعظم تأييدا لسياسة التوسع التى تنتهجها حكومة نتنياهو كمدن تشطب تدريجيا فلسطين عن الخريطة، وتندفع بالعنصرية إلى ذروة عدائها للإنسان.

***

على أن اللغز المثير فى تصرفات هذا الكاوبوى المالى، دونالد ترامب، يبقى مركزا على العلاقة الخاصة التى تربطه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين والتى فاجأت الرأى العام الأمريكى، بل الدولى، خصوصا بعد الربط بين زيارات خاصة قام بها ترامب، قبل المعركة الرئاسية، إلى روسيا وأحاديث متواترة عن صفقات تجارية وعلاقات نسائية (لا يمكن أن تبقى خاصة فى بلاد يحكمها خريج الكا. جى. بى. بوتين..).

ثمة تأكيدات رسمية عن زيارة يمكن اعتبارها سابقة، سيقوم بها الرئيس الروسى إلى الولايات المتحدة الأميركية ستكون الأولى فى تاريخ العلاقات بين البلدين، وبالتأكيد فهى ستكون خاتمة عهد جديد فى العلاقة بين هاتين الدولتين اللتين عاشتا طويلا فى ظل خصومة عقائدية ــ سياسية ــ اقتصادية شاملة، قاربت الحرب أحيانا ووقفت عند حافتها أمام ساحل كوبا.. وقد انعكست هذه «الحرب» على العالم الذى انشطر نصفين متخاصمين قبل أن تخرج على هذا الانشطار مجموعة دول عدم الانحياز التى فقدت معنى « حيادها الايجابى» مع غياب قادتها ومؤسسيها الكبار: نهرو وجمال عبدالناصر وسوكارنو وشوان لاى.. ثم مع تهاوى الاتحاد السوفييتى وعودة روسيا منهكة إلى حجمها الطبيعى (من دون معسكرها الذى كان يشمل نصف أوروبا، تقريبا، ومناطق نفوذ عدة فى أنحاء مختلفة من العالم).

على أن فلاديمير بوتين، الذى جاء من المخابرات الروسية (كا. جى. بى) إلى الرئاسة، يتناوبها شكليا مع سيرغى ايفانوف، سرعان ما أعاد الاعتبار إلى الدور الروسى عالميا، وأكد حضور موسكو الفاعل على المستوى الكونى، مخترقا أسوار الحصار، بحنكة عالية، مقتحما مناطق كانت محظورة على روسيا فى الغرب والشرق، وصولا إلى دنيا العرب التى كان «الاتحاد السوفييتى» قد أُخرج منها، (فى السبعينيات) وأحيانا بشكل لا يتناسب مع «هيبته» وقوته العسكرية..

وهكذا انفتحت أبواب الكرملين أمام ضيوف بالكوفية والعقال، بينهم مسئولون سعوديون وإماراتيون فضلا عن الكويتيين.. وعادت موسكو إلى المشرق من بوابة دمشق ودورها الحاسم، عسكريا وسياسيا، فى حماية النظام السورى ووقف انهياره وفتح أبواب المفاوضات مع معارضيه، بعد «تبرعها» بنجدة نظام اردوغان فى وجه الحملة الأمريكية عليه، إثر محاولة الانقلاب العسكرى الفاشلة التى قام بتدبيرها خصمه اللدود المقيم فى الولايات المتحدة فتح الله غولن، وهذا ما جعل الرئيس التركى عظيم الطموح إلى دور السلاطين يغرق فى «جميل» الخصم الذى انجده فى لحظة الضيق، بينما تخلى عن المبادرة إلى التضامن معه الحليف التاريخى ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية تحت رئاسة باراك اوباما.

لقد أنجز فلاديمير بوتين صورة روسيا الجديدة ودورها المستجد الذى فتح أمامها أبواب العالم كله تقريبا، وهو دور حيوى وفاعل فى السياسة كما فى الاقتصاد (النفط أساسا ومعه الذهب)، كما فى المجال العسكرى حيث أسقطت «السياسة الجديدة» الأسوار العالية التى كانت قائمة أيام «الستار الحديديد»، فدخل السلاح الروسى إلى دول كانت توقفت عن استيراده (مصر، مثلا) كما إلى دول جديدة لم تكن تعرفه..

أن روسيا قد سبقت إلى تطبيق سياسة الأبواب المفتوحة، ويمكن أن يسجل لوزير خارجيتها سيرغى لافروف أنه الأنشط بين أقرانه فى الشرق والغرب، فهو يكاد يكون فى كل مكان من أوروبا، بغربها وشرقها، وهو يكاد يكون مقيما فى جنيف لمتابعة مفاوضات لتسويات متعددة يعمل لها، بل هو فى الخليج العربى أيضا ينسق مع بعض من كانوا يتجنبون مجرد السلام عليه، فضلا عن أنه يدعو ضيوفا غير رسميين من دول عربية وأفريقية وبعض أمريكا اللاتينية، ليؤكد لهم أن روسيا معنية بقضاياهم، ولا تطلب غير الصداقة وكسر حاجز العداء المسبق الذى كان يمنع التواصل ومن ثم التفاهم من حول المصالح المشتركة.

ويمكن القول إن الخارجية الروسية قد تكون الأنشط بين وزارات خارجية الدول الكبرى (والمتوسطة أيضا).. فكل يوم ثمة ضيف أجنبى أو أكثر، وثمة حواجز تُكسر أو تُزال من أمام الدبلوماسية الناعمة، وثمة علاقات ودية تنشأ مع «خصوم سابقين» أو مع دول أكرهت على مجافاة مصالحها والامتناع عن إنشاء علاقات طبيعية مع «دول الستار الحديدى» سابقا الذى يكاد السباق معه الآن يتركز على سياسة «الأبواب المفتوحة»، مع إصرار على طى صفحة الماضى واعتماد سياسة المصالح التى لا خصومة فيها ولا عداوات.

*****

نحن إذن، أمام خريطة جديدة للعلاقات الدولية، متخففة من خصومات الماضى، العقائدية منها والسياسية، التى استولدت عالمين «متحاربين» على مستوى الكون، سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

إن التلاقى المفترض بين الرئيس الأمريكى الجديد، الآتى من عالم المال والمضاربات، وبين القيادة الروسية دقيقة الحسابات مع استعداد للانفتاح المحكوم بالمصالح، سيبدل جذريا فى العلاقات الدولية، وستسقط مقولة «الغرب غرب والشرق شرق، واللقاء استثناء وليس القاعدة فى العلاقات بينهما»...

إنه عالم مختلف عما عرفنا فألفنا، هذا العالم الجديد الذى يولد وقد سقطت الحدود بين دوله، بعدما سقطت الايديولوجيا التى كانت تحكم أرجاءه فتفرض المواجهة والمنافسة فى السياسة كما فى الاقتصاد والاجتماع والعلاقات الدولية.

ومن أسف فإن «العرب» عموما، غائبون أو مغيبون، عن هذه التطورات غير المسبوقة فى العلاقات الدولية... فأكثرية دولهم أشبه بطالبى اللجوء السياسى عند الأمريكيين، منهم بالشركاء فى القرار، خصوصا وأنه لا مجال لموقع «الحليف» فى علاقة يغيب عنها التكافؤ فى الأوزان وفى التأثير.. والأخطر فى الاستغناء عن «الحماية» والمساعدات التى تسد عجز الموازنة.

إنه عالم جديد لن يكون للعرب فيه دور أو قدرة على التأثير..

ولمن يريد شواهد ناطقة فلينظر إلى ما أصاب ويصيب قضية فلسطين، بشعبها أساسا وبأرضها استطرادا، يدرك حقيقة حالة العرب فى عالم القطبين العالميين الساعيين الآن إلى التفاهم وتقاسم النفوذ فى دنيا المصالح.. والعرب فى موقع «الغنيمة» التى ليس لها حق المفاضلة بين العدوين السابقين المتجهين الآن إلى التراضى على ضوابط مرحلة ما بعد «الحرب الباردة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved