الصراع الفكري بين الأزهر وجامعة القاهرة.. حول الأصولية والحداثة

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

يُذكرنا الحوار الذى دار بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، والدكتور محمد الخشت، أستاذ فلسفة الأديان، ورئيس جامعة القاهرة، فى مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى، تحت رعاية رئيس الجمهورية (27 ــ 28 يناير 2020)، بتاريخ طويل لما يمكن أن نسميه صراعا بين الأصولية والحداثة، قام تحديدا بين أكبر مؤسستين عريقتين فى الفكر والتعليم فى مصر، وربما فى العالمين العربى والإسلامى، ظهر هذه المرة بين رأسَى المؤسستين اللتين تمثلان السلطتين الدينية والمدنية.

يعتبر الأزهر طوال تاريخه منارة للعلم وللتنوير منذ نشأته 972م، ومنه بدأ عصر التنوير على يد الإمام محمد عبده، أول مفتى لدار الإفتاء المصرية (1849م ــ 1905م)، أحد دعاة النهضة والإصلاح، وأحد رموز التجديد فى الفقه الإسلامى، ساهم، بعد التقائه بأستاذه جمال الدين الأفغانى بباريس، فى القضاء على الجمود الفكرى والحضارى، وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر، وكان من بين الأعلام فى هذه الحقبة رفاعة الطهطاوى، وغيرهما كُثر..

لم تهتز هذه الريادة التنويرية إلا عندما بدأ استغلال الدين فى السياسة، فقد بدأ هذا التوجه بعد سقوط الخلافة العثمانية (1924)، عندما طمح الملك فؤاد ـــ ملك مصر من 1917 إلى 1936 ــ بأن يصبح «خليفة المسلمين»، ولكن الشيخ على عبدالرازق أصدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، عارض فيه فكرة «الخلافة»، ونفَى فيه وجود دولة دينية فى الإسلام، وأكد أن الإسلام عقيدة دينية، وليس منهجا سياسيا، فوقف بذلك عقبة ضد مشروع الخلافة، ولكن الأزهر شن حملة علَى علِى عبدالرازق، ورد عليه بكتاب «نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم»، ثم سحب منه شهادة العالمية، تنفيذا للحكم التأديبى الذى أصدرته «هيئة كبار العلماء» فى 12 أغسطس 1925م، وخرج بموجبه من «زمرة العلماء»، وفُصِل من عمله كقاض شرعى!

وكان الشيخ على عبدالرازق الذى حصل على «العالمية» (1912)، درس بجانب دراسته فى الأزهر فى الجامعة المصرية، (الاسم الذى كانت تعرف به جامعة القاهرة حتى 1940، والتى أُنشئت فى 1908)، هذه الجامعة انتهجت فى التعليم مناهج الحضارة الغربية، كما أن الشيخ على عبدالرازق سافر ــ عقب تخرجه ــ إلى إنجلترا والتحق بجامعة أكسفورد، عازما على دراسة الاقتصاد، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى جعله يعود إلى مصر سنة 1915م.

لم يكن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» حجر عثرة ضد تحقيق غرض الملك فؤاد فقط، ولكن استمر وجوده وتأثيره عندما عاود نفس المحاولة الملك فاروق الذى لجأ إلى الأزهر لتحقيق رغبته فى أن يكون خليفة للمسلمين، فأصدر له الشيخ محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر فى هذا العهد (1928 ــ 1929)، فتوى تثبت أن الملك فاروق من الأشراف، ومن آل البيت!

***
هكذا يتضح استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية، بدأ مع الملك فؤاد الذى دعم وجود الإخوان المسلمين فى بداية عهدها (1928)، وعمل على أن يكونوا حزبا دينيا لكى يقفوا بالمرصاد لحزب الوفد ــ حزب الأغلبية ــ المتمسك بمدنية الدولة وبالديمقراطية والدستور والتعددية، واستمر نفس النهج مع الملك فاروق، ولكنه، هذه المرة، لجأ إلى شيخ الأزهر، وابتعد عن جماعة الإخوان، بعد أن انكشفت طبيعة العنف لديها، ووضح للجميع أنها تنظيم إرهابى، خاصة بعد قتلهم للدكتور أحمد ماهر (1945)، ومحمود فهمى النقراشى (1948)، رئيسَى وزراء مصر، وكذلك قتلهم للمستشار أحمد الخازندار (1948)، فضلا عن أعمال إرهابية أخرى هددت سلامة المجتمع.

فى هذه الحقبة، ظهر أيضا صراع فكرى بين الأصولية والحداثة، كان قطباه الأزهر وطه حسين، فقد تقدم شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوى (1917 ــ 1927)، ببلاغ للنائب العام فى 5 يونيه 1926 ضد طه حسين، الأستاذ بالجامعة المصرية، يتهمه بتأليف كتاب «فى الشعر الجاهلى»، باعتبار أنه طَعن، وتعدى فيه صراحة على الدين الإسلامى، وأنكر فيه ما هو معلوم من الدين، وانتهى هذا البلاغ إلى حفظ التحقيق إداريا من النائب العام محمد نور (الذى أتمم دراسته فى مدرسة الحقوق باللغة الفرنسية)، والذى لم يفته أن يُحيى الجانب العلمى، والبحثى لطه حسين، فذكر فى حيثيات قراره: «أن للمؤلف فضلا لا يُنكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين»! (راجع مقالنا: «تطور الأحكام القضائية فى ازدراء الأديان ومدلولاتها المجتمعية»، بتاريخ 29 / 3 / 2016).

كانت بداية التعليم لطه حسين فى «كُتابِ» قريته، ثم فى الأزهر، ولكنه أكمل دراسته فى الجامعة المصرية (1908 ــ 1914)، وكتب رسالة الدكتوراه ــ وهى الأولى فى الجامعة ــ عن أبى العلاء المعرى، ثم سافر إلى فرنسا مرتين ليكمل دراسته، وحصل على الدكتوراه (1917) من السربون، وكانت رسالته عن ابن خلدون.

كان هذا فى النصف الأول من القرن العشرين، وأما فى النصف الثانى، فقد ظهرت تجليات الصراع الفكرى بين الأصولية والحداثة مع الأديب نجيب محفوظ والدكتور حامد نصر أبو زيد، الأستاذ بآداب القاهرة.

بدأ نجيب محفوظ دراسته فى الكُتَاب، ثم التحق بالجامعة المصرية (1930)، وحصل على ليسانس الفلسفة (1934)، ألف قصة «أولاد حارتنا» (1967)، ربط فيها بين الخيال والواقع، وحكى فيها الصراع الأبدى بين الشر والخير منذ بداية الخليقة، وأدان استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولكن الأزهر منع نشرها، وفى عهد فضيلة شيخ الأزهر سيد طنطاوى (2007)، أى بعد أربعين عاما، أعاد الأزهر النظر فى القرار، وأعاد لكيانه صفة التنوير، فسمح بنشر القصة (راجع مقالنا: «لماذا لا يمكن محاكمة الفكر والإبداع؟» بتاريخ 26 / 4 / 2016).

وعن نصر حامد أبو زيد، فقد تقدم بمجموعة أبحاث للترقية لدرجة أستاذ (1995)، اعترض عليها الدكتور عبدالصبور شاهين، أحد أعضاء لجنة الترقيات (المحسوب على التيار الإسلامى)، الأمر الوارد حدوثه مع أى شخص متقدم للترقية، إلا أن الدكتور شاهين لم يحترم سرية التقارير طبقا للقوانين، وراح ينشر للعامة فى المساجد، ولوسائل الإعلام نقده للأبحاث، واعتبرها مخالفة لعلوم الدين!

انتهز التيار الدينى المتطرف الفرصة، وأقام دعوى تفريق بين الباحث وزوجته، وعلى الرغم من أن الدكتور نصر أبو زيد صرح فى جميع وسائل الإعلام إيمانه بوحدانية الله، وبالكتب السماوية جميعا، وبكل الأنبياء والرسل، ولكن الزمن قد تغير، فلم يُتقبل منه كما تُقبِل من طه حسين، وحُكم عليه بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره كافرا! (راجع مقالنا، سابق الذكر، عن تطور الأحكام القضائية...).

وفى القرن الحادى والعشرين، وبعد عام واحد من ثورة 30 يونيو 2013، وسقوط حكم الإخوان 3 يوليو 2013، يعود من جديد السجال الدائر بين الأزهر وجامعة القاهرة، ظهر فى حوار نشر فى مقالتين بجريدة الأهرام بتاريخ 30 يونيو و4 يوليو 2014، بين وزير الثقافة الأسبق، والأستاذ بآداب القاهرة، الدكتور جابر عصفور، ووكيل الأزهر سابقا، الشيخ عباس شومان، دليلا قاطعا، وتجسيدا واقعيا للصراع المستمر بين الأصولية والحداثة بين الأزهر وجامعة القاهرة، ويكشف أيضا الصراع القائم حول وضع الدين فى الدولة الحديثة، الذى مازال دائرا حتى اليوم، دون تحقيق تقدم واضح فى مشروع الحداثة، ودون تراجع ملموس من سيطرة الأصولية على فكر المجتمع المصري! (راجع مقالنا: «عن تنامى ظواهر جديدة ضد الأديان»، فى 13 / 7 / 2014).

***
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على الصراع السابق، فهو يعاود الظهور من جديد، فى صورة نقاش علمى، رأيناه فى الحوار الذى دار أخيرا بين فضيلة شيخ الأزهر، ورئيس جامعة القاهرة، فقد اختلف فضيلة الإمام مع رؤية الدكتور الخشت، أستاذ فلسفة الأديان، فيما يتعلق بـ«تجديد التراث الإسلامى»، إذ يرى الأخير ضرورة تجديد التراث الدينى بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، وهذا لا يعنى «ترميم بناء قديم» بل «تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة» للوصول إلى «عصر فقهى جديد».

كان لهذا النقاش فوائد كثيرة، من أهمها: أنه لولاه ما علم بهذا المؤتمر، ولا بأهدافه، سوى الحاضرين فيه؛ كما أن المطلوب تجديد الفكر الدينى، القائم على العقلانية النقدية، وضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة؛ وصحح لنا مفاهيم مختلطة علينا، فتعلمنا أن المُطلق يُقابله النسبى، وليس الشك؛ وأن التراث هو عمل بشرى يخضع للزمان والمكان، أما المقدس (القرآن والأحاديث) فسيظل مصدر إلهام ينهل منه الباحثون والمفسرون، فيتحول نتاجهم إلى عمل بشرى؛ وأن القطيعة المعرفية الكاملة مع الماضى (Epistemology) هى خطيئة، ونُعبِر عنها بالعامية «اللى ملوش قديم، ملوش جديد»، (راجع مقالنا: هل الهجرة النبوية كانت قطيعة كاملة مع الماضى؟ فى 15 / 9 / 2018)؛ وأوضح أيضا أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، فالحوار العلمى لا يجب أن يتحول إلى شجار، فقد منع فضيلة الإمام، بحكمته، أحد الحاضرين من مقاطعة الدكتور الخشت، والهجوم عليه.

ومن أهم نتائج هذا المؤتمر، أن الريادة الفكرية والتنويرية ستظل دائما فى مصر، وأن التوافق أو التقارب الفكرى يمكن أن يحدث بمثل هذه الحوارات العلمية.

والجدير بالذكر، أن هذا المؤتمر كشف بكل أحداثه، عما نريد إثباته، بأن معظم التنويريين، والمصلحين الذين درسوا فى الأزهر حدث لهم ما يمكن أن نطلق عليه «التهجين» الفكرى (hybridism)، أو الاختلاط بالعلوم وبالثقافات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة الغربية، وأهمها الفرنسية، فنرى على التوالى: محمد عبده، والطهطاوى، وطه حسين، وأحمد الطيب، قد نهلوا جميعا من ثقافات وعلوم الجامعات الفرنسية، فتمتعوا كلهم بسعة الأفق، وبالإبداع، وبتقبل الآخر.

كما لا يفوتنا، فى هذا المقام، التنويه لقرار المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 27 / 1 / 2020 (تاريخ انعقاد المؤتمر)، بتأييد قرار رئيس جامعة القاهرة السابق، الدكتور جابر نصار، بمنع أعضاء هيئة التدريس من ارتداء النقاب، وهذا يدلل على الصراع المستمر بين المؤسستين، والذى أخذ أشكالا متعددة، منها اللجوء إلى القضاء.

ومما سبق، يتبين أن جامعة القاهرة لها دور أساسى فى تخريج كل المصلحين، والمبدعين، والتنويريين، من أمثال: محمد نور، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبو زيد، والخشت..

وأخيرا، نقول إن التلاقح بين الحضارات والثقافات المختلفة يُنجب الإبداع والتنوير والإصلاح، وهذا يُعارض تماما فكرة الغرب عن «صدام الحضارات»، التى لا تؤدى إلا إلى الخراب والدمار!، أو كما قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات آية 13)..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved