كوبرى البازيليك وأزمة الحداثة فى الواقع المصرى

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 14 فبراير 2021 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

الحوار الذى دار فى محافل عديدة فى مصر؛ على أدوات التواصل الاجتماعى، وعلى صفحات الجرائد، وفى بيانات بعض المؤسسات الثقافية، وحتى داخل مجلس النواب، حول بعض مشاريع التطوير فى العاصمة وفى مقدمتها مشروع ما يسمى بعين القاهرة فى منطقة الجزيرة، وبناء طريق علوى يهبط بجوار أو أمام كنيسة البازيليك فى مصر الجديدة يكشف عن أزمة عميقة فى الفكر والواقع فى مصر، وهى الإخفاق فى اكتشاف الطريق الذى يؤدى بمصر إلى حداثة صحيحة ذات وجه إنسانى، لأن مشروعات التطوير العمرانى تستند بالضرورة إلى تصور محدد عما ينبغى أن تكون عليه المدينة، وينبع هذا التصور من التيارات الفكرية السائدة فى لحظة هذا التطوير، والتى تسهم بدورها فى تشكيل قرارات السلطة العامة التى تقوم به. ومن المعروف أن ولادة القاهرة الحديثة فى القرن التاسع عشر، وما جرى لها بعد ذلك ارتبط بالأجوبة التى طرحها الفكر المصرى والفكر العربى بصفة عامة حول سؤال أكبر وهو كيف يمكن الخروج من حالة الضعف التى مر بها العالم العربى والإسلامى فى مواجهة الغرب المستعمر والمنتصر، وهو سؤال لم نجد له بعد لا فى مجال الفكر أو مجال السياسة إجابة صحيحة.
حول ذلك السؤال العويص، وهو كيف نلحق بالغرب المتقدم؟ قدم المفكرون الرواد إجابات، وقدم له النظام السياسى المصرى فى تطوره ترجمة عملية، تمثلت فيما جرى من تطوير فى العاصمة. ومع ذلك لم تكن الإجابات مقنعة، ولا يبدو أن نظامنا السياسى قد اكتشف الحل الناجع الذى يمكننا ليس بالضرورة من اللحاق بالعالم الغربى، وهو أمر مستحيل حتى ولو كان مرغوبا لدى البعض، ولكن ما هو أكثر أهمية وواقعية هو أن نعالج أوضاعنا المتردية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. ولكن أيا كانت إجابات النظام السياسى المصرى عن هذا السؤال، فقد تركت هذه الأجوبة بصمات واضحة على عمران العاصمة، وسوف يستعرض هذا المقال اجتهادات النظام السياسى فى مصر على هذا السؤال، وكيف انعكس ذلك على عمرانها.
كيف نخرج من واقعنا المأزوم؟
الإجابة التى قدمها الرواد الأوائل هى تقليد الغرب بالاعتماد أولا على العقل فى فهم الكون والعالم والمجتمع، وباستعارة مؤسساته ونظمه فى جميع المجالات، ورواد آخرون دعوا إلى التوفيق بين الثقافة العربية الإسلامية ومقتضيات الحداثة المنقولة عن الغرب. ولم يكن الواقع السياسى غريبا عن هذه الاجتهادات.
الخروج من واقعنا المأزوم كان فى تصور هذه المرحلة الأولى فى تطور النظام السياسى المصرى هو بتقليد الغرب، وكانت ترجمة ذلك هو بالسعى لكى تكون العاصمة جزءا من أوروبا، تخطيط القاهرة الخديوية تم على أيدى مهندسين أجانب، وعمارة القاهرة الحديثة حتى النصف الأول من القرن العشرين مستلهمة من عمارة المدن المتوسطية وخصوصا الفرنسية والإيطالية، وأبرز معالم القاهرة فى ذلك الوقت مثل الأوبرا القديمة فى وسط المدينة أو دار البرلمان وجامعة القاهرة حاكت كلها نماذج أوروبية وغربية مختلفة، سواء فى قبابها أو أعمدتها أو غيرها من ملامح.
وحتى نظام ثورة يوليو كان يسترشد بنماذج غربية، حتى وإن كانت غير رأسمالية، وخصوصا فى المجال الاقتصادى وفى التنظيم الثقافى والمؤسسات الثقافية والتعليمية، أفكار التصنيع والتخطيط المركزى وإقامة أوركسترا للموسيقى السيمفونية ومعهد للكونسرفاتوار وآخر للباليه، وإرسال بعثات لأرقى الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، كل ذلك كان يستوحى بعض ملامح نموذج غربى غير ليبرالى، ولا يجب هنا أن ننسى أن الغرب لم يكن كله رأسماليا ولا ليبراليا، وشركاء الضباط الأحرار فى إدارة البلاد كانوا من خريجى الجامعات البريطانية والأمريكية. بصمات نظام يوليو واضحة فى طريق كورنيش النيل وشارع صلاح سالم ومجمع التحرير وفندق هيلتون وبرج القاهرة، ومدينة نصر، والمساكن الشعبية فى بعض أحياء القاهرة الفقيرة.
وسعى النظام السياسى المصرى بعد رحيل عبدالناصر إلى العودة من جديد إلى ليبرالية منقوصة تمثلت فى سياسة الانفتاح الاقتصادى غير المنضبط على عهد السادات أو الإنتاجى فى ظل مبارك مع تعددية حزبية مقيدة. وكانت البصمات العمرانية فى ظل الأول هى أولا حريق دار الأوبرا وتفاقم مشاكل السكن والمواصلات داخل القاهرة مع السعى لنقل العمران خارجها، وحاول مبارك علاج هذه المشاكل بالاستعانة بالمعونات الأجنبية وبرأس المال المصرى، فأعاد بناء الأوبرا وأوجد للقاهرة مركزا كبيرا للمؤتمرات، وعرفت القاهرة تخفيفا لمشاكل المواصلات فيها بمشروعات الطرق العلوية الطويلة ودخول شبكة المترو، والتوسع فى تشييد المنتجعات لأصحاب الدخول العالية فى المدن الجديدة خارج القاهرة، وهى كلها حلول مستمدة من تجارب المدن الغربية.
ولكن أخفقت كل هذه المحاولات فى تقليد الغرب، فلم تنتقل مصر إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة التى ضيقت الفجوة بينها وبين الدول الغربية مثل كوريا الجنوبية أو الصين وغيرها من نمور القارة الآسيوية، وبكل تأكيد تتعدد أسباب سقوط كل هذه المحاولات للسير على طريق الحداثة، ولكن القاسم المشترك بينها هو الإخفاق فى تحقيق النقلة الاقتصادية التى توجد للحداثة قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية، لن تكون هناك دولة حديثة فى دولة ذات اقتصاد زراعى أو يعتمد على الريع، ولن يكون هناك مجتمع حديث وغالبية قوته العاملة تعتمد على الزراعة أو العمالة فى القطاع غير الرسمى، ولا يمكن أن تكون هناك حداثة ليبرالية دون أن تكون هناك رأسمالية لا تستمد مصادر استثماراتها بالاقتراض من بنوك الدولة.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن محاولتى التحديث الماضيتين لم تخطئا تماما تلمس الطريق الصحيح. ظهور بنك مصر ونمو الرأسمالية المصرية فى العهد شبه الليبرالى كانا خطوات على سبيل توفير الأساس الاقتصادى للحداثة، ونفس الأمر بالنسبة لجهود التصنيع بقيادة الدولة فى مرحلة ثورة يوليو، كما أن البصمات العمرانية لهاتين المحاولتين وإن استلهمتا نماذج أوروبية إلا أنها أضافت لعمران العاصمة، وأصبح بعضها من معالمها الأساسية التى يفخر بها ليس فقط سكانها ولكن كل المصريين، كما أن الاجتهادات الأخرى فى شق طرق جديدة أو ابتكار وسائل انتقال لم تكن معروفة فيها مسبقا ساهمت فى حل مشاكل عاصمة مختنقة.
ولكن اللافت للاهتمام أن هذا الدرس لا يبدو أنه واضح فى مصر فى جهود التحديث الجارية فى السنوات الأخيرة، والتى تتغاضى عن توفير هذا الأساس الاقتصادى بتنمية إنسانية سليمة قاطرتها التصنيع والزراعة والخدمات الإنتاجية واحترام الحقوق الأساسية للبشر، وتستعيض عن ذلك بالإكثار من مظاهر الحداثة فى جميع القطاعات، بما فى ذلك فى التنمية العمرانية دون أن يكون هناك أساس حقيقى لها.
الحداثة الشكلية
وإذا كان من المسلم به أن النقلة المرغوبة فى مصر إلى عالم الحداثة لم تتحقق، فلا يبدو أن اجتهادات السنوات الأخيرة قد تخلت عن هذا الهدف أو استلهمت طريقا جديدا للوصول إليه. بل العكس خطاب هذه السنوات تكثر فيه مفردات أعلى المعايير الفنية، والاسترشاد بالتجارب الدولية بل والسعى للتفوق على كل الدول العربية والإفريقية فى حجم العديد من المشروعات. وباختصار بدلا من التأكيد على تحقيق ما أخفقت المرحلتان السابقتان فى الوصول إليه، اكتفت من الحداثة بشكلها، بل واستلهمت مظاهر الحداثة المنقولة فى بعض الدول العربية الأخرى، وخصوصا دول الخليج، بدلا من محاولة الاستفادة من دول الحداثة الأصلية فى أوروبا وفى أمريكا الشمالية، وحتى فى الحالات التى نقلت فيها عن دول الحداثة الأصلية فقد جاء النقل فى غير موضعه.
تتعدد تجليات الحداثة الشكلية فى مصر، والمقصود بالحداثة الشكلية تقليد مؤسسات الدول الحديثة بالاقتصار على نقل الهياكل أو المؤسسات دون أن تقوم بالوظائف المرتبطة بها فى الدول التى نشأت فيها، أو اتباع ممارسات وأساليب تنظيم فى الدول الحديثة ولكن فى غير موضعها. ينطبق ذلك على الدستور ومجلسى البرلمان والأحزاب السياسية وأدوات الإعلام مما لا مجال للإسهاب فيه. وليكتف القارئ الحصيف بمقارنة ما تقوم به كل هذه المؤسسات فى بلادنا وما تقوم به فى الدول التى نقلناها عنها.
الحداثة المعمارية فى مصر
وكما أن لدينا فى الوقت الحاضر مظاهر الحداثة فى مؤسساتنا السياسية والمجتمعية دون وظائفها ولا مضمونها، فلدينا أيضا العديد من مظاهر الحداثة المعمارية ولكن ليس فى موضعها الصحيح ولا فى وظائفها. جزيرة مانهاتن فى نيويورك مشهورة بناطحات السحاب فيها، ولكنها هناك ليس لأن الأمريكيين فى نيويورك مغرمون بالارتفاعات العالية، ولكن لأن مانهاتن جزيرة صغيرة، والارتفاع بالمبانى كان فيها حل عبقرى لضيق المساحة وكثافة السكان. ونحن فى مصر لدينا أبراج عالية ولكننا نقيمها على شاطئ البحر فى العلمين الجديدة التى تمتد وراءها كل صحراء مصر الغربية، ونقيمها فى العاصمة الإدارية التى ستوجد فيها أعلى أبراج إفريقيا، وكذلك فى وسط القاهرة المكتظ بالسكان وصاحب واحدة من أعلى معدلات التلوث فى العالم. كما أن لدينا الطرق السريعة بحارات تتراوح بين أربع إلى ثمانى حارات على جانبى الطريق، ولكن الطرق السريعة هى خارج المدن فى الدول الحديثة، ولكننا ننقلها إلى داخل المدن دون أن نوفر أماكن لعبور المشاة. وعندما نشقها خارج المدن الكبرى فإننا نلتهم معها مساحات واسعة من الأراضى الزراعية الخصبة التى نعانى أصلا من ضيق مساحتها ونسعى لتعويض ذلك باستصلاح الصحراء.
صحيح أن بعض مشروعات التطوير الحضارى تهتم بالقاهرة الخديوية والإسلامية أو معالم أخرى فى أحياء القاهرة الأحدث نسبيا، وهو توجه مشروع ويستحق التحية، ولكن الحرص على سيولة المرور فى بعضها غلب على اعتبارات أمان عابرى الطريق، وحق سكان الأحياء التى جرى فيها شق هذه الطرق السريعة فى أن يتمكنوا من التجول فى شوارع أحيائهم سيرا على الأقدام، كما أن رغبة أجهزة الدولة التى تقيم هذه المشروعات فى أن تقتضى من ورائها دخلا يجعلها تضيف إلى بعضها مقاهى ومطاعم ومحال تجارية تؤدى إلى الازدحام فيها بل والتأثير على سلامتها فى الأجل المتوسط والبعيد، وبينما يقتضى التخطيط السليم استشارة المتخصصين من خبراء التخطيط العمرانى وفى مصر منهم كثيرون، وكذلك سكان الأحياء التى تقع فيها هذه المشروعات، وخصوصا فى ظل غياب مجالس محلية منتخبة من هؤلاء السكان، يتم اتخاذ القرار بالنسبة لهذه المشروعات داخل دوائر ضيقة للغاية ودون توافر الشفافية التى هى واحدة من أهم قواعد الحكم الرشيد.
طبعا أعزائى القراء شق طريق علوى سريع لا حاجة له أصلا فى منطقة سكانية فى مصر الجديدة وتشويهه للمتعة البصرية فى شارع الأهرام وأمام كنيسة البازيليك التى دفن فيها بارون إمبان مؤسس مصر الجديدة، وكذلك إقامة عين القاهرة فى مدخل حى الزمالك فى منطقة الجزيرة المزدحمة أصلا بالسيارات هما طبعا مظاهر للحداثة فى مدينة القاهرة، ولكنها مظاهر للحداثة تجعل الناس يحلمون بالعودة لما قبل الحداثة، عندما لم تكن هناك سيارات، ولا تلوث، ولا سلطات ترغم المواطنين على أن يقبلوا ما لا يريدون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved