الغول والعنقاء والمصرى السعيد

سلمى حسين
سلمى حسين

آخر تحديث: السبت 14 مارس 2015 - 12:55 م بتوقيت القاهرة

هَلَّ علينا حدث هو الأكبر والأهم فى تاريخ الاقتصاد المصرى، هو المؤتمر المصرى للتنمية الاقتصادية بشرم الشيخ. هو كذلك مقيس بحجم الحضور عددا وكيفا. فلأول مرة يجتمع هذا الكم من وفود دولية رفيعة المستوى وكبار مديرى الشركات العالمية فى مصر. يحدث هذا بدعوة ودعم سخى من كبار القادة السياسيين العرب، حكام أهم دول الخليج المالكين لمحافظ استثمارية فى أنحاء العالم الأربعة تقدر بمئات المليارات. مليارات تراكمت عبر السنين بفضل فوائض مهولة من تصدير البترول وبفضل تحالفات دولية أمنت لها استقرار تلك الفوائض. فلماذا يهتم حكام الخليج بتمويل ورعاية مثل هذا الحدث الكبير غير المسبوق لمصلحة مصر؟
إبطال الزخم الثورى فى المنطقة هو الدافع الأول لكثير من حكام المنطقة (والعالم) ومنهم النخب الحاكمة فى مصر (قبل وبعد وفى أثناء الإخوان). والمقصود هو وأد أى إصلاح جذرى للاختلالات الاجتماعية العميقة.. نموذج أكثر عدالة وعدلا خاصة من حيث نمط توزيع الثروة. نموذج كان من المتأمل أن يأتى نتاج الثورات، عبر تداول حقيقى للسلطة والقضاء على الفساد وفتح الباب لمساءلة الشعب لحكامه.
وهكذا، التقى على هدف مشترك الكثير من حكام المنطقة والعالم. إذ ترى السعودية، وهى من أهم اللاعبين الإقليميين حاليا، إن لم تكن الأهم، أن وقوف مصر إلى جانبها هو عامل حاسم فى وقف مد الزخم الثورى إلى دول عربية أخرى. ومن أجل هذا تدفع الثمن شراء لاستقرار الرابضين على كراسى الحكم.
وتسعد النخبة المصرية الحاكمة بإبقاء موازين القوى الاقتصادية على ما هى عليه وترى فى أموال الخليج مخرجا سريعا من أزمة اقتصادية طاحنة بما سيسمح بتوسيع دائرة المستفيدين من النمو من عموم المصريين. وهكذا، التقت القيادة السياسية المصرية مع تلك الدول الغنية على ضرورة خلق ظرف اقتصادى يسمح بقدر من الرخاء السريع أملا فى إطفاء جذوة الغضب لدى الأغلبية الكاسحة من المصريين، الذين ما زالوا يرون أن لا صوت لهم ولا سند بعد ثورتين ملهمتين.
لم يغير مجىء عاهل سعودى جديد، من تلك الرؤية، وإن اختلفت الشروط المملاة على مصر من أجل تدفق الأموال. فصار مثلا التقارب مع بقية الدول السنية فى المنطقة، وعلى رأسها تركيا وقطر، شرطا لاستمرار الدعم، وهو ما بدا مقبولا من مصر.
وهكذا، انحسر حلم التنمية العادلة إلى «رش» كم متواضع من البترودولارات، والكثير من وعود الرفاه. ولكن بعيدا عن معايير التنمية المركبة المتعارف عليها فى الفكر الاقتصادى، وحتى بمعيار متواضع مثل حجم الأموال الآتية، إلى أى مدى ستضمن تلك الأموال تهدئة ولو مؤقتة للفورة الثورية فى المنطقة التى تحظى بنسبة شباب هى الأكبر بين أقاليم العالم، شباب متعلم عاطل، لا صوت له ولا عمل ولا سبل تغيير وإصلاح ديمقراطية؟
سينجح المؤتمر حتمًا
سينجح المؤتمر حتما فى جذب الاستثمارات المنشودة بل وأكثر من تلك التى تعلن عنها حكومة مصر. ستتدفق مليارات من الدولارات فى بلد عطشان ــ أو تم تعطيشه ــ للنقد الأجنبى، نتيجة هروب الأموال للخارج. وهو ما سيتغنى به المسئولون. ستأتى رءوس الأموال لتؤسس مشروعات نفط وطاقة وسلع غذائية وموانئ. فكيف سينعكس ذلك على حياة المصريين؟ بالسلب.
أنت تحصل فقط على ما تحلم به.. إذا حلمت برءوس أموال، ستأتى. وإن حلمت بمواطن مصرى سعيد فسيكون لك هذا. ولكن حتى الآن، يبقى حلم المصرى السعيد مستحيلا. ما زالت النخبة الحاكمة تقصر حلمها على استجلاب رأس المال الأجنبى أملا فى أن يجلب ذلك الرخاء. فى حين تعلمنا الخبرات التنموية فى العالم أن الرخاء الذى يأتى مع تلك الأموال لن يفيد الشعب العريض إلا اذا اتخذت الحكومات من التدابير التى تضمن ذلك، وإلا بقيت الأموال ورخاؤها الوفير حكرا على فئة صغيرة نافذة قوية قريبة من الحكام، تاركة المصرى تعيسا فقيرا.
أى استثمار أجنبى سيأتى؟
مبدئيا، تُنْبِئُنا القطاعات الاقتصادية التى خبرنا أن الأموال ستتدفق إليها بأمرين: أولا: أنها كثيفة رأس المال، أى تحتاج إلى كم وفير من الأموال لخلق عدد ضئيل من فرص العمل. وهو نقيض ما نحتاج إليه فى مصر والتى تعانى نقصا فى الأموال ووفرة فى الأيدى العاملة. وهكذا من ناحية، سيستمر نفس نمط توزيع الدخل. أى تذهب عوائد المشروعات فى شكل أرباح مما يعزز من شأن أصحاب رأس المال على حساب أصحاب الأجور. ومن ناحية أخرى، لن تنخفض البطالة بين القاعدة العريضة من الشباب المتعلم الحانق الثائر. لأن المعروض من الوظائف ــ رغم المبالغ الضخمة المتدفقة ــ أقل من أن يستوعب تلك الملايين من خريجى الجامعات والمعاهد العليا الفنية والصناعية والزراعية.
وحتى من يجد عملا، فلن ينجو من فقره. حيث تفترض طبيعة تلك المشروعات أن يكون الطلب على العمل معظمه فى شكل وظائف مؤقتة، وتتركز أساسا فى أعمال البناء. هؤلاء، كما تعلمنا على يد الدكتورة نجلاء الأهوانى، وزيرة التعاون الدولى وأستاذة الاقتصاد القديرة، يبقون الأكثر فقرا لأن وظائفهم مؤقتة ومحدودة بمدة بناء المشروع. وهؤلاء يعانون مرتين. أولا بسبب غياب سياسات تكفل لهم تعويضا عن فترات البطالة، وحدا أدنى للأجر عن كل ساعة عمل. وثانيا، بسبب أن أولئك العاملين غير مؤمن عليهم لا صحيا ولا اجتماعيا، كما يلاحظ عن حق وزير التخطيط، أشرف العربى. فإذا مرضوا أو شاخوا لا يجدون علاجا ولا دخلا. ومع ذلك نجد أن الحكومة اختارت ألا تكفل لهم أى ضمان صحى واجتماعى (وهو ما يعانى من غيابه ٩٠٪ من العاملين فى القطاع الخاص). وهكذا يظل مستوى معيشتهم رهن قوة بدنهم ووجود طلب على عملهم، وإلا جاعوا وجاعت أسرهم، وهو ما يحدث طبعا طوال الوقت، فيظلون رهن فقر وجهل يورثونه لأبنائهم وأبناء أبنائهم. إذن المحصلة الأولى هى وظائف قليلة مؤقتة بأجور زهيدة فى مقابل أرباح كبيرة لأصحاب المشروعات.
المعيار الثانى لتحقيق أهداف المؤتمر: هو رفع قدرة مصر الاقتصادية على النمو المتواصل، وهو ما يأتى بزيادة الإنتاج من السلع القابلة للتجارة إما لزيادة التصدير أو تخفيض الواردات أو كليهما. فالتصدير ضرورة لتأمين تدفقات مستقرة من النقد الأجنبى، لتمويل وارداتنا الغذائية واحتياجاتنا الصناعية، بدلا من الاعتماد على عائدات السياحة أو الاستثمارات الأجنبية. فقد رأينا الأولى تنهار والثانية تهرب خارج البلاد بسبب عدم الاستقرار السياسى، بعكس الباقيات الصالحات من المصانع والمزارع والمعامل.
ومن المؤسف أن مصر لم تضع سياسة تصنيعية أو زراعية لتروجها فى المؤتمر، مكتفية بسياسة «كل ما يأتى خير». وبالتالى لن تخلق تلك المشروعات تيارا مستقرا من الدولارات الوافدة إلى مصر ولن توفر سلعا محلية بديلة للمستوردة. بل على العكس، إذ تسمح القوانين المصرية لتلك الشركات الأجنبية التى ستعمل فى مصر بأن تحول أرباحها إلى دولها الأم، وبهذا نجد أنفسنا فى معكوس المطلوب لإنعاش الاقتصاد المصرى، أى ستفقد البلاد سنويا مليارات الدولارات. والخلاصة أن المحصلة الثانية وهى زيادة قدرة الاقتصاد على خلق رفاه اقتصادى مستديم ومعتمد على موارده الذاتية أيضا مستبعدة.
المصرى السعيد فى حده الأدنى هو وصف لشخص ينعم بوظيفة آمنة لائقة، ضامنا خدمة علاجية راقية له ولأولاده وتعليما مجانيا يساعدهم على الترقى الاجتماعى. المصرى التعيس هو نتاج المؤتمر وما صاحبه من سياسات دلع وإفساد المستثمرين بشكل لم يحلموا به وقت مبارك على حساب أغلبية الشعب.
ستأتى الدولارات علامة على نجاح المؤتمر وعلى إيمان دول الخليج بالاقتصاد المصرى كمصدر مستقر وواعد لتراكم الأرباح. ولكن على حساب البشر. سيبقى المصرى حزينا، فقيرا على حاله أو أتعس. ويبقى استقراره واستقرار المنطقة على كف عفريت. وعندها لن نشهد الثورات الناعمة البريئة التى تغنينا بها خلال السنوات الأربع الماضية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved