غزة في المخيال اليهودي
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الخميس 14 مارس 2024 - 9:16 م
بتوقيت القاهرة
قبل الخوض فى لُب موضوع المقال، أى حضور غزة فى المخيلة التوراتية، على وجه التحديد، لا بد من إشارة تاريخية موجزة لتوضيح أهمية المدينة. غزة، بحسب مصادر عديدة، إحدى المدن القديمة للغاية فى المنطقة، كانت مأهولة قبل نحو 3500 سنة، وربما، حتى، قبل ذلك. اكتسبت أهميتها الاستراتيجية بسبب موقعها على البحر المتوسط بين قارتى آسيا وإفريقيا، ومن ثم دارت معارك وحروب لا حصر لها من أجل السيطرة عليها. ترد أقدم إشارة تاريخية لها، ضمن رسائل «تل العمارنة»، فى سياق احتلال الفرعون المصرى، تحتمس الثالث، لها، فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد (1468ق.م) يعرب فيها ملكها عن ولائه للفرعون المصرى، وضمن رسالة أخرى تتحدث عن استدعائه إلى مصر، وتعهده بحماية أبواب غزة ويافا.
يتضح، طبقا لهذه الوثائق وغيرها، أن غزة كانت قاعدة للنشاط العسكرى والإدارى للحكم المصرى فى أرض فلسطين (كنعان)، الذى استمر قرونا (معجم المصطلحات اليهودية). فى العصر الحديث، أصبح قطاع غزة وحدة إدارية مستقلة، فى شهر يوليو 1948م، حيث أقيم به «مجلس إدارى لفلسطين»، وفى سبتمبر من العام نفسه، شكلت اللجنة العربية العليا «حكومة عموم فلسطين»، بدلا من هذا المجلس، ومنحتها سلطة على الضفة الغربية أيضا، لكنها لم يُكتب لها النجاح بسبب اعتراض الحكومة الأردنية التى اعتبرت نفسها الممثل الحصرى للشعب الفلسطينى؛ ثم خضع القطاع للإدارة المصرية بعد اتفاقيات الهدنة عام 1949م، لكنه لم يُضم إلى مصر (معجم المصطلحات اليهودية). فى عام 1994م، وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو (سبتمبر 1993م)، انتقلت السيادة فى قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، وفى مارس 1996م، عقدت به أول جلسة للمجلس الوطنى الفلسطينى. فى عام 2006م، أقيمت أول انتخابات برلمانية ديمقراطية فى مناطق السلطة الفلسطينية، فازت فيها حركة حماس بأغلبية، وشكلت حكومة برئاسة إسماعيل هنية، فرضت إسرائيل، على إثرها، حصارا على القطاع، وشنت سلسلة من الحروب عليه، منها ثلاثة خلال فترة حكم بنيامين نتنياهو.
• • •
يرد اسم غزة فى التوراة اثنتين وعشرين مرة، ما يعنى أنها مدينة ذات أهمية. واللافت للنظر، بل المثير للدهشة والتساؤل، أن أول ورود للاسم يرد فى أول سفر من أسفار التوراة: سفر «التكوين»، أو «فى البدء»، بحسب المسمَّى العبرى («بريشيت»). مبعث الدهشة والتساؤل هو، أن السفر معنى، فى المقام الأول، بأمرين: نشأة الكون، كل الكون، وليس منطقة حصرية بعينها، والخليقة، كل الخلق، وليس مجموعة عرقية بعينها، فما الذى دعاه، إذا إلى اختصاص غزة وأرض كنعان بالذكر من دون سائر أماكن المعمورة؟!: «وكانت تخوم الكنعانى من صيدون، حينما تجيئ نحو جَرَار إلى غزة، وحينما تجىء نحو سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم إلى لاشع». (سفر التكوين، 10، 19).
يبدو الأمر وكأنه إخطار مبكر لكل من يهمه الأمر، فى كل أرجاء المعمورة، بأن غزة هى الحدود الجنوبية لأرض كنعان (هى أرض فلسطين، فى واقع الأمر، أما تسميتها بكنعان فتسمية توراتية ذات أهداف محددة). هنا يثور السؤال: لماذا أرض كنعان، حصريا، من بين كل بقاع العالم؟! الإجابة، ببساطة: لأنها الأرض التى وعد «رب إسرائيل» بها بنى إسرائيل: «وأعطى لك (الخطاب إلى إبراهيم) ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان مُلكا أبديا» (سفر التكوين، 17: 8)؛ وفى موضع آخر من التوراة: «ثم كلَّم الله موسى وقال له: «أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنى الإله القادر على كل شىء (...) وأيضا أقمت معهم عهدى: أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التى تغربوا فيها» (سفر الخروج، 6، 2 ــ 4).
• • •
يستشف مما سبق أنه كانت هناك تهيئة وإعداد للمتلقى مفادهما أن ما يُسمَّى بـ «أرض كنعان» ــ فلسطين ــ بما فى ذلك غزة، هى الأرض «الموعودة». بعد مرحلة التهيئة، والإشهار، والإخطار، إذا جاز أن نستعمل لغة رجال القانون، تأتى مرحلة التطبيق العملى، وإخراج الخطط «الإلهية» إلى حيز التنفيذ والفعل، وضم الأرض «الموعودة»، بقوة السلاح، إلى القبائل العبرانية، التى غزت هذه البلاد. تصدر كل التوجيهات والأوامر، فى مرحلة التطبيق العملى للخطط الحربية المتعلقة بالغزو، من رب بنى إسرائيل، حصريا، «رب الجنود»، كما يُسمى نفسه فى الأسفار. هو الذى يدير عملية الغزو، ويشرف عليها بنفسه، وهو الذى يحث يوشع بن نون، خليفة موسى، والقائد العسكرى للغزاة، على استكمال عملية الغزو والاستيلاء على ما تبقى من أرض الفلسطينيين، حتى وهو فى شيخوخته: «وشاخ يشوع. تقدم فى الأيام. فقال له الرب: «أنت قد شخت. تقدمت فى الأيام. وقد بقيت أرضٌ كثيرة جدا للامتلاك. هذه هى الأرض الباقية: «كل دائرة الفلسطينيين وكل الجشوريين من الشيحور الذى هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا تُحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة: الغزى والأشدودى والأشقلونى والجَتى والعقرونى والعويين» (سفر يشوع، 13، 1 ــ 3)، فيمتثل يشوع لـ «الأوامر الإلهية»، بل ويمعن فى حرب إبادة ضد السكان المحليين: «فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها. لم يبق شاردا، بل حرَّم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل. فضربهم يشوع من قادش برنيع إلى غزة وجميع أرض جوشن إلى جبعون». (سفر يشوع، 10، 40 ــ 42).
وُزعت الأرض المنهوبة على الأسباط الإثنى عشر، التى شاركت كلها فى عملية الغزو، فكانت غزة من نصيب سبط يهودا، كما يرد فى الإحصاء الذى أجراه سفر يشوع للمدن الفلسطينية، التى صارت من نصيب سبط يهودا: «....أشدود وقراها وضياعها، وغزة وقراها وضياعها إلى وادى مصر والبحر الكبير وتخومه». (سفر يشوع، 15، 47)؛ وكما فى سفر القضاة: «وأخذ يهوذا غزة وتخومها، وأشقلون وتخومها، وعقرون وتخومها». (سفر القضاة، 1، 18).
• • •
ألا تذكرك حرب الإبادة التى شنها يشوع، منذ آلاف السنين، بأمر من «رب بنى إسرائيل»، بما يجرى الآن من حرب إبادة ضد غزة، إن قتلا بالسلاح الأمريكى، أو قتلا بالتجويع والحصار؟ ألم يدعُ وزير التراث فى حكومة نتنياهو، عضو الحزب اليمينى المتطرف، بزعامة بن جفير، «قوة يهودية»، عميحاى إلياهو، إلى «تسوية غزة بالأرض بالقنبلة النووية»؟ ألا يستدعى ذلك إلى الذهن الخيار الذى استعمله شمشون التوراتى ــ كان قاضيا وزعيما حارب الفلسطينيين ــ ضد أهل غزة، الذين قاوموا الغزو: «فقال شمشون للغلام الماسك بيده.. (دعنى ألمس الأعمدة التى البيت قائمٌ عليها لأستند عليها). وكان البيت مملوءا رجالا ونساء، وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين، وعلى السطح نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون. فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدى الرب، اذكرنى وشددنى يا الله هذه المرة فقط، فأنتقم نقمة واحدة عن عينى من الفلسطينيين. وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائما عليهما، واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره. وقال شمشون «لتمت نفسى مع الفلسطينيين». وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذى فيه. فكان الموتى الذين أماتهم فى موته، أكثر من الذين أماتهم فى حياته». (سفر القضاة: 15، 20 ــ 31).
ألا يسير بنيامين نتنياهو على خطى يشوع، وشمشون؟ ألا ما أشبه الليلة بالبارحة! لم يتغير خط التفكير، نفسه، منذ آلاف السنين، ولن يتغير، حتى لا تكون ثمة أوهام لدى بعض حسنى النوايا من بنى جلدتنا، الذين يفتحون أحضانهم لسلالة يشوع. تتواصل حرب الإبادة ضد غزة على امتداد كل الأسفار، سواء حرقا، كما فى سفر «عاموس»: «هكذا قال الرب: من أجل ذنوب غزة الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنهم سَبَوا سبيا كاملا لكى يسلموه إلى أدوم. فأرسل نارا على سور غزة فتأكل قصورها» (سفر عاموس، 1، 6 ــ 7)، أم تنكيلا وضربا لكل التخوم، كما فى سفر «الملوك الثانى»: «وفى السنة الثالثة لهوشع بن أيلة ملك إسرائيل مَلَك حزقيا بن آحاز ملك يهوذا (...). هو ضرب الفلسطينيين إلى غزة وتخومها. من برج النواطير إلى المدينة المحصنة» (سفر الملوك الثانى، 18، 1 ــ 8)، أم انتزاعا للملك منها، بالضبط مثلما يريد نتنياهو القضاء المبرم على حكم «حماس»، كما فى سفر «زكريا»: «ترى أشقلون فتخاف، وغزة فتتوجع جدا، وعقرون لأنه يخزيها انتظارها، والملك يبيد من غزة (...) وأقطع كبرياء الفلسطينيين. (سفر زكريا، 9، 5)، أم نهبا، كما فى سفر «صفنيا»: «لأن غزة تكون متروكة (أى نهبا للخراب)، وأشقلون للخراب. أشدود عند الظهيرة يطردونها، وعقرون تستأصل. ويلٌ لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين! كلمة الرب عليكم «يا كنعان أرض الفلسطينيين، إنى أخربك بلا ساكن». (سفر صفنيا، 2، 4)، أم إهلاكا شاملا، كما فى سفر «إرميا»: «كلمة الرب التى صارت إلى إرميا النبى عن الفلسطينيين قبل ضرب فرعون غزة. هكذا قال الرب: ها مياهٌ تصعد من الشمال وتكون سيلا جارفا فتغشى الأرض وملأها (...) بسبب اليوم الآتى لهلاك كل الفلسطينيين (...) لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور. أتى الصُّلْع على غزة. (سفر إرميا، 47، 1 ــ 5). أزعم، فى حدود ما أعلم، أن أحدا لم يسبقنى إلى هذه القراءة التفكيكية للمشهد التوراتى فيما يخص النظرة إلى غزة، وهى قراءة استفدت فيها من المنهج النقدى للفيلسوف الفرنسى اليهودى، جاك دريدا (1930 ــ 1904م)، المعروف باسم «التفكيكية».
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة.