سد النهضة فى مفترق الطرق

فكري حسن
فكري حسن

آخر تحديث: الأربعاء 14 أبريل 2021 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

نقترب بخطى متسارعة نحو اختيار ذى عواقب جسيمة لدول حوض النيل بعد سنوات من المبادرات والمفاوضات للتوصل إلى تنسيق حول استخدامات مياه النيل من قبل كل الدول المشاركة فى هذا النهر التاريخى. ولا يمكن أن نتفهم الإشكاليات القائمة إلا من خلال الأحداث السياسية والتاريخية التى مرت من خلالها العلاقات بين دول حوض النيل والتى كان معظمها يعانى من سلطة الاحتلال الأوروبى والذى تراجعت قبضته من خلال حركات التحرير التى شملت إفريقيا ومنها مصر فى ١٩٥٤. ويكتب جمال عبدالناصر زعيم الثورة المصرية التى أطاحت بالاحتلال البريطانى فى نفس العام الذى حصلت فيه مصر على استقلالها كتقديم لكتاب «أضواء على الحبشة» تحت عنوان «إثيوبيا دولة شقيقة»؛ «نحن... شقيقان فى هذا النهر الخالد فكل ذرة من ذرات ذلك النهر المتدفق فى مجراه بين المنبع والمصب تتناجى همسا بأمانى مشتركة لتلتقى عندها عواطف المصريين والسودانيين والأحباش جميعا... لقد ظللنا حينا لظروف خارجة عن إرادتنا بعيدين عن جارتنا وشقيقتنا لأن السياسة التى كان يفرضها الاستعمار على بلادنا منذ زمن بعيد، كانت تحول بيننا وبين توكيد أسباب التعارف وتوثيق أواصر الجوار».
ويتطرق الكتاب إلى مشروعات ضبط مياه روافد النيل وطابع الحذر والشك تجاه مصر، ويؤكد على أن مصر تسعى صادقة للتعاون مع إثيوبيا. كما يتطرق الكتاب إلى مساعى أمريكا حينذاك واهتماماتها بموارد إثيوبيا وموقعها الجغرافى وموانيها، كما يتطرق إلى ما قامت به أمريكا من خلال مشروع المساعدات الفنية لإقامة مشروعات مائية فى حوض النيل الأزرق وبحيرة تانا منها القابلية للتوسيع الزراعى وإمكانية توليد القوى الكهربائية. كما أشار الكتاب إلى ربط ميناء مصر بميناء إريتريا إيلات الإسرائيلى الذى سيكون بديلا للمرور بقناة السويس وكانت إريتريا وقتها تحت الحكم الإثيوبى حتى نالت استقلالها فى ١٩٩١.
مرت المنطقة بمتغيرات سياسية هامة منذ ١٩٥٤ وتتداخل فى إشكاليات تقاسم المياه فى حوض النيل خلفيات ومصالح سياسية إقليمية ودولية، لا تنفصل عن السياسات المتعلقة بالقرن الإفريقى وتأمين البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب. علما بأن للموانئ فى هذه المنطقة نفوذا دولية. من هذه الموانئ دولة جيبوتى فى ظل امتلاك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وإيطاليا قواعد عسكرية بها. كما توجد خطة لتأسيس قاعدة سعودية وأخرى إثيوبية بمساعدة فرنسا، وتشترك السعودية مع الإمارات فى الاهتمام بموانى القرن الإفريقى ومنها ميناء بورتسودان فى السودان ومومباسا فى كينيا وميناء بربرة فى الصومال والذى تقوم بالتدخل فيه إثيوبيا مع طموحاتها للحصول على منفذ بحرى وتوطيد مكانتها للسيطرة على القوى السياسية بشرق إفريقيا لصالح دول خارجية. وفى هذا الصدد يجب الإشارة إلى التمرد حديثا فى ولاية تيجراى الإثيوبية ومشكلة ترسيم الحدود السودانية الإثيوبية، ومعاهدة الدفاع الأمنى المصرى السودانى. كما أنه لا يخفى أن هناك مخططات تستهدف جر مصر إلى مواجهات تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار كما حدث فى العديد من دول المنطقة.
***
فى هذا الإطار الملغم لا يمكن فصل إشكالية سد النهضة من العوامل الجيوسياسية بالمنطقة وأن التوصل إلى حلول يتعدى المسائل الفنية مع أهميتها وضرورة الإسراع فى التعامل معها. ولذلك فإن موقف إثيوبيا بالمضى قدما فى المرحلة الثانية من ملء سد النهضة بدون تنسيق مع مصر والسودان محفوف بالمخاطر، ويتنافى مع القوانين الدولية ومنها اتفاقية قانون استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية فى ١٩٩٧، وتنص على عدم إقامة مشاريع مائية فى مصادر المياه الدولية المشتركة بدون إخطار وضرورة العمل بأقصى ما يمكن على مبدأ الإفصاح وتبادل المعلومات الخاصة بأى تراتيب مخططة والتشاور مع الدول الأخرى بهدف التوصل إلى اتفاق بخصوص تقسيم المياه على أسس عادلة ومنصفة طبقا لا فحسب للاستخدامات الحالية ولكن أيضا للاستخدامات المحتملة (وهو ما تضمنته اتفاقية عنتيبى التى وقعت عليها إثيوبيا)، مع تفادى إلحاق الضرر الجسيم بحقوق الدول الأخرى المشاركة فى الأنهار الدولية.
من الأصوب أن تقوم إثيوبيا بالتوصل دون إبطاء مع مصر والسودان إلى حل مرضٍ للجميع، لتفادى التداعيات المحتملة ولتفادى الأضرار الجسيمة التى ستلحق بمصر والسودان نتيجة للتصرفات الأحادية التى تتخذها إثيوبيا والتى تهدد سلامة وأمن المنطقة مع ما يترتب على ذلك من كلفة وخراب جسيم لكل الأطراف، ستلقى بظلالها سلبيا على مجالات التنمية الاقتصادية والمجتمعية وتعرقل خطوات التعافى من أزمة كورونا لمصلحة الجهات المتعددة من خارج المنطقة التى يهمها استهداف الاستقرار والنماء فى الشرق الأوسط والتى تدخل فى معادلاتها الآن القرن الإفريقى وشرق إفريقيا.
من الحكمة أن يتم التحرك بسرعة نحو اتفاق سلمى وودى بخصوص ملء السد وتنظيم مشترك لآثار ما يترتب على الملء وتشغيل السد فيما بعد لتوليد الكهرباء واستصلاح الأراضى وما يمكن أن يسببه من أضرار تمس الأمن الغذائى، والملاحة، وتوليد الطاقة فى دول المصب، وتفاقم نمو الحشائش الضارة، وتفشى الأمراض المتعلقة بالمياه الراكدة، وترسيب الطمى أو النحر مما يهدد المنشآت المائية.
***
ولتعزيز المسار الإيجابى الذى لا يهمل حقوق إثيوبيا فى التنمية بدون أضرار بالغة لدول المصب، ومع احتفاظ مصر بحقها فى كل الخيارات الصائبة، كما صرح الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفى إطار تصريحاته بشأن تغليب المسارات السلمية والتعاون على طريق المواجهات، فلا بديل لتحرك سياسى نشط وفعال لتصويب مسار إثيوبيا بما لها من مصالح اقتصادية متعددة وجيوسياسية مع العديد من الدول العربية والصين وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، كما يمكن أن يطرح تصور شامل بخصوص التنمية المتكاملة للدول الثلاث فى كل المجالات التنموية تشمل التصنيع وخدمات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والزراعة الحديثة والرعى والخدمات اللوجستية للنقل والتعدين والطاقة والعمالة والتعليم والصحة حتى توضع إشكالية استخدامات المياه فى نصابها التنموى آخذين فى الاعتبار مفهوم «الماء الافتراضى» فلكل سلعة أو خدمة مكافئ مائى وبالتالى تحل معادلة التنمية محل معادلة توزيع المياه كماء فحسب دون حساب تقاسم المنتجات والخدمات. وليكون هذا المؤتمر بما سيترتب عليه من إجراءات برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى والجهات الدولية المعنية يضم كل الخبرات العلمية والتقنية والقانونية والإدارية فى مجموعات عمل متخصصة. وفى خلال عمل المؤتمر واللجان المنبثقة عنه يبقى الحال على ما عليه لمدة عام تتم خلاله التوصل إلى حلول مرضية للجميع فى إطار القانون وإجماع المجتمع الدولى. لن يضير الأمر أن تنتظر عاما لتبنى صرحا من التعاون والتنمية المشتركة بمباركة ودعم دولى بدلا من السير فى طريق سيعرقل مسارات التنمية ووبالا على استقرار المنطقة بأسرها.

استشارى برنامج المياه العالمى، الرئيس الأسبق للجمعية العالمية لتاريخ المياه

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved