للكتابة أسباب كثيرة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 14 أبريل 2022 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

في الأسبوع الماضي كتب الأديب الكبير نبيل نعوم مقالًا جميلًا في جريدة الشروق كان عنوانه هو "لماذا تكتب؟"، وكما هو واضح فإن المقال اهتم بمعرفة لماذا يلجأ الأدباء لممارسة فعل الكتابة، وهكذا طاف بنا نعوم من قارة لأخرى ومن ثقافة لثقافة، وانتقل بنا بسلاسة من توفيق الحكيم إلى صمويل بيكيت، ومن الطيب صالح إلى جورج أمادو بحثًا عن إجابة سؤاله. وفي هذا الطواف الواسع يلفت النظر أن بعض الكتّاب تعامَل مع الكتابة باعتبارها فعلًا إراديًا مقصودًا ومتعمدًا للتغيير وبث الأمل والكفاح لنصرة قضية معينة قد تكون هي قضية الحياة نفسها وصولًا إلى اعتبار نجيب محفوظ أن الحياة هي الكتابة والكتابة هي الحياة فإن أردتَ مواصلة العيش فليس أمامك إلا أن تكتب وتكتب، لكن البعض الآخر تعامَل مع الكتابة باعتبارها أمرًا قدَريًا حتميًا ومكتوبًا على الجبين إلى الحد الذي ذهب معه ألبرتو مورافيا لتشبيه الكتابة بالجزرة المعلقة أمام أنف الحمار تتقدمه طوال الوقت وهو يسير خلفها فلا هي تسقط على الأرض ولا هو يأكلها. عن نفسي أعتبر الكتابة اختيارًا شخصيًا، بل هي أحد الأفعال القليلة في هذه الحياة التي تتجلى فيها الإرادة الفردية العمدية، أما مبررات هذا الاختيار فإنها أكثر من أن تُحصَى.
• • •
يكتب الواحد منّا ليوثّق اللحظات الحلوة التي يمر بها في حياته، ولكاتبنا المبدع إبراهيم عبدالمجيد عمل رائق جدًا عنوانه هو "الأيام الحلوة فقط"، وفيه يروي عبدالمجيد ذكرياته المبهجة مع عدد من الأدباء الكبار، منهم ظرفاء بامتياز كالأديب خيري شلبي الذي ما إن يحضر طيفه حتى تأتي في ركابه ابتسامة جاهزة للاتساع والتحوّل لما هو أكثر من الابتسام. الإمساك بهذه الأيام الحلوة يغسل الروح، روح الكاتب وروح القرّاء، ومثل هذا النوع من الكتابة مطلوب في زمن لم يمّر علينا ما هو أصعب منه. لكن الواحد منّا قد يكتب أيضًا عن "الأيام الوحشة"، لماذا؟ ليتخلص من حِمل ثقيل يجثم على صدره بمجرد أن يلقيه على هيئة سطور تسوّد الورق، أو ليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه نجا وأفلت بجلده من كابوس الأيام التعيسة، أو كنوع من جلد الذات بسياط الذكريات المؤلمة فبعض الناس يتلّذذ بإيذاء نفسه. وتحت هذا الباب يمكن أن نضع كل الأعمال التي حاولت أن تؤرّخ لتجربة السجن كإحدى التجارب "الوحشة" وهو وصف مخفّف جدًا لن تجد مَن مرّ بهذه التجربة يستخدمه أبدًا، وعلى سبيل المثال استحضر ديستوڤسكي تجربة سجنه في صقيع سيبريا على هيئة "ذكريات من منزل الأموات" وهو وصف شديد القسوة لكنه حقيقي أكثر مما نتوقع فبعض السجن موت، أولم يعش أحمد المرزوقي سنين طويلة سجينًا داخل مقبرة كما حكى في روايته "تزممارت الزنزانة رقم١٠"؟ بلى حدث هذا وبالتالي لا توجد مبالغة في هذا التعبير، أما أوسكار وايلد فلقد استخدم مصطلح "الأعماق" في تذكّر تجربته الذاتية مع السجن، ففي الأعماق يوجد ظلام وخوف ووحدة واغتراب. وقريب من ذلك التشبيه تصوير مصطفى خليفة تجربة سجنه في سوريا لنحو ١٣ عامًا على هيئة "قوقعة" مقفولة على مجهول في رواية تحمل العنوان نفسه. واختار الدكتور شريف حتاتة توصيفًا عبقريًا لتجربة سجنه المؤلمة في روايته "العين ذات الجفن المعدني" في إشارة لتبلّد الإحساس وغياب علامات الحياة. هكذا إذن هو أدب السجون نجده مسكونًا بقدر عظيم من المعاناة والألم، والشيء المؤكد أن الذين مروا بهذه التجربة لا يعودون في العادة كما كانوا، وهنا ربما أستعير العبارة التي قالها مريد البرغوثي وإن تكن وردت في سياق مختلف، إذ راودته في اللحظة التى رأى فيها رام الله الحبيبة بعد طول غياب "لا غائب يعود كاملًا، لا شيء يستعاد كما هو".
• • •
ثم أن في الكتابة براح ومتسّع وفضاء يسمح للكاتب بأن يكتب على لسان أبطاله ما لا يستطيع أن يبوح به بنفسه، وحسنًا فعل بودلير في ديوان "أزهار الشر" ومعه كل رواد المدرسة الرمزية في الأدب حين أتاحوا للكاتب حفنة من الأدوات التي تمكنّه من أن يقول ولا يقول ويعبّر ولا يعبّر. وفي هذا المجال خاض عبدالرحمن شكري وفدوى طوقان وبدر شاكر السياب وتوغّلوا شعرًا ونثرًا، أما أديب نوبل نجيب محفوظ فلم يكن يُشّق له غبار فلقد استطاع بعوّامته وحارته وحرافيشه أن يعرّي ظاهرة التسلط في نطاق الأسرة وعلى مستوى الحكم، وبرع إلى حد أنه بعد مرور أكثر من ستة عقود على إبداعه في رسم شخصية سي السيد، لازال هذا الأخير يمثّل أيقونة التسلط على مستوى الأدب العربي. ولو عدنا إلى نبيل نعوم سنجد أنه أكثر من استخدام الترميز والتشفير، ففي عديد من روايات نعوم يختفي الكاتب خلف أحداث التاريخ ويجري على لسان أبطاله ما يحترس من كشفه في الواقع، وهنا هو يضرب عصفورين بحجر واحد. الحجر الأول هو الغوص في أعماق التاريخ الذي أحبّه حبًا جمًّا ودرسه بعد تخرجه من هندسة القاهرة، فإذا أنت نظرت إلى روايته الأولى "الباب" وجدتها قد تمدّدت وانتقلَت من العصر الفرعوني إلى العصر الروماني ومن الحقبة القبطية إلى الحقبة الإسلامية وكأنه جوّال عبر الزمن. أما الحجر الثاني فهو استخدام التاريخ كقناع للوجه وتوظيفه في عملية الإسقاط السياسي للماضي على الحاضر، معوّلًا في ذلك على فطنة القارئ لإدراك المعنى الموجود في بطن الشاعر/الكاتب.
• • •
وبالكتابة يتحقق الاكتمال، وذلك أنه في داخل كل واحد منّا شيء لم يكتمل، حلم أُجهض، حب ضاع، مغامرة لم تكتمل، ومن يتاح له أن يمسك بالقلم ويكتب تأتيه هدية من السماء فإذا به يتمكّن من أن يغلق الدائرة ويقفل القوس ويتحقق له الاكتمال، وهذا في ظني أمتع أنواع الكتابة لأنه يُشبع للكاتب رغباته المؤجلة وربما حتى المستحيلة. توجد لنبيل نعوم رواية شهيرة تحمل عنوان "نصف صدر" تدور حول شخصية أمير صاحب الصدر المجوّف مثل حفرة، ذلك الإنسان الذي فشل في زواجه ولم يهتدِ إلى الحبيبة التي يبدأ معها تجربة أخرى وحياة جديدة، وكمثل أمير يوجد في صدر كل واحد منّا تجويف ينتظر ما يملأه أو من يملأه بشيء ما ليس حبًا بالضرورة فالشعور بالامتلاء نسبي وبالتالي يختلف من شخص لآخر، ويمكن للكتابة أن تلعب هذا الدور التعويضي وتساعد على ملء الفراغات.

يا أستاذ نعوم أنا أكتب إذن أنا موجودة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved