عرق معتق فى تعب الأيام

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 14 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كانت الساعة الرابعة صباحا.. تثاءب اليوم وفتحت السماء أبوابها فسكنتها بعض الغيوم فهذه القاهرة وهذا شهر مايو أو آيار والربيع قد ولج قبل أيام فقط عندما خرجت أحشاء المدن المصرية إلى الحدائق والشوارع فى طقس يشبه رعشة الحب، أم أنها كانت تؤكد أنه شىء لم يحدث أو ربما لأن المصريين أحبوا أن يقولوا بصوت جماعى أننا ورغم فتاواكم خارجون إلى الحدائق حاملون الفسيخ والخس والبصل.. وهاتفون سنبقى، كما نحن مصريون نحتفل بشم النسيم، كما تحتفل العديد من مدن الكون بقدومه أى الربيع إلا المدن التى لا تعرفه ولا تعرف إلا الفصل الواحد واللون الواحد.

 

●●●

 

كانت الرابعة صباحا أو ما بعدها بقليل حين قرأت آخر سطر فى تلك الصفحة رقم 396 من تلك الرواية التى حملتنى إلى عوالم اعرفها جيدا.. «ساق البامبو» الرواية الفائزة بجائزة البوكر لهذا العام ليست سوى مرور سريع على بعض تفاصيل أيام أهل الكويت أو ربما أهل الخليج.. منذ الصفحة رقم 1 حتى الأخيرة قرأتها بنفس واحد كأننى أحبس نفسى وأقول نعم قل أكثر.. زدنى مما أعرفه.. كرر على مسامعى ما يؤلمنى حتى الصراخ أحيانا.

 

لأقل من ثلاثة أيام أصبحت هذه الرواية برنامج أيامى وما غيرها تفاصيل على القيام بها لأعود إليها.. ربما لأنها قالت الكثير مما يجب أن يُقال أو لأنها عرت هذه المجتمعات المختبئة خلف الفاترينات الفاخرة ورائحة النفط.. أو لأنها قالت كم هشة هى هذه التركيبة وكيف أن كثرة الجوامع والصلوات لا تعنى التسامح والرحمة التى هى أصل الدين أى دين كان.. ازدواجية حيوات هذه الشعوب، كما تحب أن تكون كما هى فلا تستطيع فما لها سوى أن تخلق عالما موازيا ربما فى نفس البلد أو على أطرافه فى الشاليهات المصطفة على حافة الخليج أو فى شقق بعمارات خاصة بـ«الوافدين» أو «الغربية»، كما يسميهم البعض بمعنى أن نسكن جنب الغريب فلا يعيبنا شىء فهؤلاء ليسوا نحن.. ليسوا مثلنا يحملون قيما أخرى لا تتفق مع عادات القبيلة وتقاليدها ونحن أى، الخليجيين، رغم العربات الفارهة والملابس المستوردة من أهم بيوت الأزياء فى باريس وميلانو فإننا لا نزال خليجيين.. خلف العباءة السوداء التى تمنع «الغواية» يبقى الجسد هو الجسد والروح تتوق إلى شكل من أشكال العتق من العبودية.

 

●●●

 

كم عبودية هى تلك التى رسمها سعود السنعوسى فى روايته «ساق البامبو» عبودية ليست فقط تلك التى يعيشها الوافدون مثل بابو ولاكشمى ولوزفيميندا وراجو بل هى عبودية الخليجى نفسه.. عبودية القبيلة والعائلة والعادات والقيم التى لم يغيرها لا كثر السفر والاحتكاك بشعوب الكون ولا متابعة آخر برامج الموسيقى والترفيه العالمية ولا امتلاك آى بود وآى بد ولاب توب ولا الحديث المطعم بكثير من الإنجليزية دليل «التمدن» و«الكشخه».. لا كل ذلك ليس سوى قشور، كما هو حال الكثير من المجتمعات فالخليج ليس حالة نادرة. هذه الازدواجية هى التى تجعل الجميع يبصر له بشىء من السخرية أحيانا والكراهية أحيانا أخرى وكثيرة.

 

●●●

 

حتى البامبو عجز عن أن يرسل بجذوره فى رمال صحراء الخليج ولا حتى على شواطئه.. هى تربة لا تتقبل إلا أبناء وبنات من لون واحد قبائل وأسماء وطوائف.. القادمون.. كل القادمين يصنفون فى مراتب ودرجات متتالية بعضها الأقرب «لنا» والأخرى بعيدة جدا ولن تقترب.. هم، أى الآخرون، عمال وموظفون قادمون، بعضهم أمضى أكثر من عشرين عاما يعمل فى نفس المهنة وبنفس المكان ويتلقى نفس المعاملة القاسية.. لا قوانين معمول بها ولا رحمة ناتجة عن دين أو حتى أخلاق.. صور خدم المنازل بوجوههم الشاحبة الجالسين على هوامش البيوت والفيلل الفاخرة ينتظرون الأوامر المقبلة وانتهاء السنتين، حيث يأتى موعد الرحيل إلى الأوطان من لاهور حتى مانيلا فى رحلة تبدو كلمح البصر ما يلبث أن يعود أو تعود هى إلى أيام الشقاء المتواصلة.. تذكرت وأنا أقرأ «ساق البامبو» كل هؤلاء من العاملين الذين لا نلمحهم فى حياتنا اليوم هم هناك، ولكنهم أيضا مخفيون يعيشون على الذكريات التى حملوها فى شنطهم الأولى أو الصور المقبلة فى رسائل سواء عبر البريد الإلكترونى أو حتى البريد العادى.. ذاك التقليدى فهو الأرخص لشعوب هجرها الفقر والعوز إلى مدن الذهب أو هكذا تقول تلك الاغنية الهندية باللغة الأوردو والتى لا ينتبه الكثير من الخليجيين بأنها تصدح فى معظم المطاعم الشعبية والمقاهى التى يرتادها الوافدون من آسيا.. تقول ذهبت لتجمع الذهب من الصحراء فعدت فى تابوت من الخشب الرخيص.. لا ذهب ولا نفط فقط عرق معتق فى تعب الأيام.

 

 

 

 

 

كاتبة من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved