حواراتنا الاستراتيجية مع القوى الكبرى والصاعدة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 14 مايو 2017 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

أتيحت لى زيارة ثالثة للعاصمة الصينية بكين للمشاركة فى ندوة عن العلاقات المصرية الصينية أن أتذكر زيارتى الأولى للعاصمة الصينية فى يناير 2001 فيما سمى وقتها بداية حوار استراتيجى بين مصر والصين، وأتذكر معها مشاركتى فى أنشطة مشابهة كلها سميت بالحوار الاستراتيجى، كما تذكرت أيضا اجتماعات أخرى لم أحضرها، وأطلقت عليها نفس التسمية، ومع ذلك كانت حصيلة تأملى لكل هذه الأنشطة أننا نسرف كثيرا فى استخدام كلمة «استراتيجى» فنطلقها على ما نعتبره هاما، دون أن يكون استراتيجيا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة التى تعنى رؤية ذات أبعاد كلية وطويلة الأمد تسترشد بها السياسات فى جميع المجالات، وتستلزم تحديد أساليب تنفيذ هذه السياسات، ويخصص لها ما يتفق مع أهميتها من موارد، وتحظى فى البداية بمشاركة كبار المسئولين فى الدولة، والذين يتابعون تطبيقها عن كثب، ويحاسبون المسئولين عن البطء فى تنفيذها. وحتى لا تنزعجوا أعزائى القراء من هذا التوصيف لما هو استراتيجى، أو تضفون على أهمية لا أستحقها، فإنى أطمئنكم أنه على تعدد المناسبات التى اشتركت فيها فيما سمى بـ«حوار استراتيجى»، فإن هذا التوصيف لا ينطبق على أى منها. كما أنه لم يحدث على الإطلاق أن التقى بنا نحن المدعويين للمشاركة فى هذا الحوار أى من المسئولين المختصين به لا على المستوى الوزارى، وطبعا وبكل تأكيد ولا مستوى رئيس الوزراء أو رئيس الدولة، لا قبل الحوار ولا بعده، وإنما ترك الأمر لنا لكى نتصور، كل حسب اجتهاده أو شطارته، موقفنا الاستراتيجى من القضايا التى نتصور أنها ستكون موضع النقاش فيه، وفضلا على ذلك كله فبعد انتهاء «الحوار الاستراتيجى» لم أسمع أن أيا منا قد استدعى من جانب أى من هؤلاء المسئولين للاستفهام عما جرى فيه. وطبعا عدم الاكتراث من جانب المسئولين المعنيين بهذه الأنشطة هو معيار لعدم أهميتها، فهى ليست استراتيجية على أى نحو، ولكن وصفى لها يكشف عن بعض أبعاد إدارة الدولة فى مصر لعلاقاتها الخارجية فى الماضى وفى الحاضر، وهو كما يقولون بالتعبير المهذب، يترك المجال لكثير من التمنى.
***
سأضرب ثلاث أمثلة على «الحوارات الاستراتيجية» التى اشتركت فيها، وأفصل فيما يتعلق منها بالعلاقات الصينية المصرية والتى تشهد هذا الأسبوع مشاركة مصر فى مؤتمر قمة مبادرة الحزام والطريق المنعقدة فى العاصمة الصينية بكين يومى 14ــ15 مايو.
سأبدأ بما اعتبره أهم هذه المناسبات، وهو لقاء فى مؤسسة راند ذات الصلة بوزارة الدفاع الأمريكية فى مارس 2001 فى أعقاب تولى جورج بوش رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أغلبية المشاركين من المصريين من خبراء العلاقات الدولية والأكاديميين مثلى، وعلى الرغم من أنى لا أعتبر نفسى خبيرا فى العلاقات الدولية فأنا أكثر اهتماما بالشئون السياسية الداخلية وخصوصا قضايا التحول الديمقراطى وحقوق الإنسان والتنمية الإنسانية، إلا أن كرم بعض من تولوا وزارة الخارجية وتحديدا كلا من عمرو موسى وأحمد ماهر جعلهم يتصورون أننى قد أكون مفيدا فى هذه اللقاءات.
لم يلتق بنا كما ذكرت أى من مسئولى وزارة الخارجية أو أى مؤسسة أخرى فى الدولة لتبصيرنا بالهدف من اللقاء ولا بموقف الحكومة المصرية مما سيطرح فيه. وطبعا وقتها لم يتساءل أى منا عن ذلك، فنحن، بغرور الأكاديميين والخبراء، نتصور أننا نعرف كل شىء، وأننا قادرون على الرد بل والحديث باستفاضة فى أى قضية ستطرح فيه. وضم المشاركون الأمريكيون عددا من الشخصيات، أذكر منهم عضوا بمجلس النواب الأمريكى، وخبيرا أمريكيا فى شئون نزع السلاح وعلى صلة قريبة بمجلس الأمن القومى فى الولايات المتحدة هو جيفرى كيمب.
وقد فوجئت أثناء الحوار بجيفرى كيمب يطرح علينا سؤالا حول موقف مصر إذا ما شنت الولايات المتحدة حربا على العراق. أدهشنى السؤال فقد كانت إدارة بوش تخطو خطواتها الأولى فى البيت الأبيض، ولم تكن قد قضت فيه سوى بضعة أسابيع. ولعلكم تدركون أن هذا اللقاء سبق بشهور أحداث سبتمبر 2001 الشهيرة التى اتخذتها الإدارة الأمريكية واحدا من مبررات غزوها الوحشى للعراق. تملكت الدهشة كل المصريين الحاضرين، واستدرك كيمب للقول بأن ذلك هو الحديث الجارى فى العاصمة الأمريكية فى ذلك الوقت. انبريت للرد على كيمب قائلا إن الحكومة المصرية لا يمكن أن توافق على مثل هذا العمل، وأنه لا يمكن للقوات المسلحة المصرية أن تشارك فيه. ادعيت لنفسى الحديث باسم الحكومة المصرية بل وباسم القوات المسلحة المصرية دون تفويض من أى منهما، ولكن شرحت ما أقول بأنه توقعى الشخصى. والتزم زملائى المصريون الآخرون الصمت، أو تحدثوا فى الأمر على نحو بالغ العمومية يجيده الأكاديميون عندما لا يريدون اتخاذ موقف محدد. انتهى الأمر بالنسبة لى عند هذا الحد، وقضيت أياما فى العاصمة الأمريكية، لم يلتق بى أثناءها ولا بعد عودتى إلى مصر أى مسئول يطلب منى تعليقا على ما جرى فى هذا اللقاء. عرفت بعد ذلك بسنوات أن ما قلته كان قريبا من الموقف الرسمى للحكومة المصرية.
***
الحوار الثانى الذى شاركت فيه بعد ذلك بسنوات كان مع وفد هندى رفيع المستوى ضم بعض جنرالات الجيش الهندى، وكان الطرف المقابل هو المجلس المصرى للشئون الخارجية، وكان عنوانه أيضا الحوار الاستراتيجى بين الهند ومصر. مثل كل هذه اللقاءات، لم يسبقه أى تحضير من الجانب المصرى، ولا لقاء مع المسئولين الحكوميين لشرح ماذا نريد من الهند. وبينما كان المشاركون الهنود ممثلين لمؤسسات حكومية هندية تعرف ويعرفون ماذا يريدون من مصر، انطلق المشاركون المصريون يتحدثون كل بحسب هواه، وما أسعفته به ذاكرته وشطارته، دون أن يستتبع ما نقول أى التزامات محددة أو مواقف معينة تتخذها الحكومة المصرية. بالنسبة للمصريين هو أقرب إلى لقاء دردشة أو كما يقول اللبنانيون هو «طق حنك» وليس لقاء جادا. لاحظوا أيضا أنه بينما كان المشاركون الهنود من المسئولين العاملين فى مؤسساتهم، كان المشاركون المصريون من السفراء المتقاعدين ومن بعض الأكاديميين. لا يمكن وصف هذا اللقاء بأنه استراتيجى على أى نحو أو حتى أنه يتسم بالجدية من الجانب المصرى رغم صدق نوايا كل من شارك فيه من المصريين.
الحوار الثالث هو الذى جرى فى العاصمة الصينية بكين فى يناير 2001 وكان بداية ما سمى بعلاقات استراتيجية بين الصين ومصر. انضم إلى هذا الحوار سفير مصر فى الصين الدكتور محمد نعمان جلال والذى كان قد وصل قبلها بأيام للعاصمة الصينية ورأسه السفير محمود فرغل الذى كان وقتها مديرا لمعهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية وشارك فيه اثنان من أساتذة جامعة القاهرة هما المرحوم الدكتور محمد السيد سليم وكان مديرا لمركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة وكاتب هذه السطور الذى كان مديرا لمركز دراسات وبحوث الدول النامية بالجامعة، وكان خامسنا الأستاذ محمود مراد من كبار كتاب الأهرام.
ذهبنا إلى بكين دون إعداد سابق، وعاملتنا السلطات الصينية بحفاوة شديدة فكانت إقامتنا فى نزل إقامة رؤساء الدول. وفوجئنا عندما دخلنا إلى قاعة الحوار بالعدد الكبير من المشاركين الصينيين الذى اقترب من الخمسين يمثلون كل المؤسسات الصينية المهتمة بالعلاقات مع مصر من مصارف، وشركات طيران وملاحة، ووكالة الصين للأنباء بالإضافة إلى الوزارات الصينية ذات الصلة. ماذا نفعل نحن فى مواجهة هذا الحشد. اجتهدنا نحن الخمسة، ولكننا بكل تأكيد لم نشف غليل أعضاء الفريق الصينى بتعدد اهتماماتهم وتطلعهم إلى توثيق العلاقات مع مصر فى جميع المجالات.
***
كما ذكرت ذهبت إلى الصين منذ ثلاثة أسابيع للمشاركة فى ندوة نظمتها مدرسة اللغات الأجنبية بجامعة بكين مع معهد السياسات العامة وشئون العولمة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وضم الأعضاء المصريون وزير الخارجية السابق السيد نبيل فهمى مدير المعهد والدكتور إبراهيم عوض الأستاذ بالجامعة وكاتب هذه السطور. ضم المشاركون الصينيون قرابة خمسة عشر مشاركا من أساتذة العلاقات الدولية والمتخصصين فى شئون الشرق الأوسط فى الجامعة وعدد من السفراء الصينيين السابقين فى الشرق الأوسط ومسئولى الخارجية الصينية ومنهم ممثل الصين فى عملية السلام فى الشرق الأوسط. عدد الصينيين المشاركين ومستوى تمثيلهم يعكس اهتمام الحكومة الصينية الكبير بعلاقاتها مع مصر التى كانت الموضوع الرئيسى لهذا اللقاء. والملاحظات التى أبدوها أثناء النقاش تعليقا على مداخلتى عن العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بين البلدين تعكس إلى أى حد لا يجد اهتمامهم بهذه العلاقات صدى مناسبا من الجانب المصرى. كانوا يتمنون حضور الرئيس السيسى قمة الحزام والطريق المنعقدة فى بكين هذا الأسبوع، واعتذرت الحكومة المصرية لأن الرئيس سيكون فى بكين فى شهر سبتمبر لحضور قمة مجموعة البريكس، ويمثل مصر فى قمة هذا الأسبوع وزراء المالية والصناعة والاستثمار الذين لن يتمكنوا من حضور اجتماعات رؤساء الدول والحكومات التى تتخذ فيها أهم القرارات. وقعت مصر مع الصين أثناء زيارة الرئيس الصينى فى 2014 إحدى وعشرين اتفاقية يتفاوت معدل تنفيذها من اتفاقية وأخرى، ويشكو الصينيون أن الجانب المصرى يطلق وعودا ولا ينفذها على أرض الواقع.
***
لدينا الكثير مما نتعلمه من الصين من تجربتها التنموية ومن صعودها الاقتصادى، لو كنا نتعامل مع علاقتنا معها على أنها علاقة استراتيجية. ولكن العلاقات الاستراتيجية لدينا هى فقط مع إدارة غير مستقرة فى واشنطن لا نعرف ولا يعرف أحد استراتيجيتها فى العالم، كما أننا أيضا ليست لنا استراتيجية معروفة، وهو ما يعرفه العالم، وأصبح يعاملنا على هذا الأساس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved