النغمة الصحيحة فى مسلسل «الاختيار»

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 14 مايو 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

تكررت فكرة محددة جديرة بالمناقشة حول مسلسل «الاختيار»، فى تعليقات كثيرة لأساتذة ومثقفين معتبرين أقرأ لهم، وأعتز للغاية برأيهم. جوهر الفكرة هو أن المسلسل يتجاهل الوطنية المصرية، فى مقابل تضخيم الخطاب الدينى، فالعمل يرد طوال الوقت، من خلال شخصياته وحواراته، بخطاب دينى مناظر، وليس بخطاب وطنى.
بداية أدهشتنى جدا فكرة الحديث عن تغييب الوطنية المصرية فى عمل فكرته أصلا عن ضابط خان وطنه وجيشه وشعبه، فى مقابل ضابط وطنى كان وفيا لوطنه وجيشه وشعبه.
المسلسل عنوانه «الاختيار.. قصة الوفاء والخيانة»، والوفاء والخيانة هنا معناهما صريح لا يحتمل اللبس، الفكرة الوطنية إذن أساس الحكاية كلها، وأول لقطة فى التترات التى تذاع يوميا هى علم مصر، هذه إذن الراية التى يدافع عنها المسلسل، ويقاتل الجنود تحتها، وهى علامة بصرية شديدة الوضوح والمباشرة، ولا تحتمل أى تأويل آخر.
أما الشخصية المصرية فى العمل فهى حاضرة بقوة ليست من خلال المنسى فقط، ولكنها تتوزع على شخصيات مختلفة أخرى مثل والد المنسى، والناشط السياسى الشاب، والفلاح سعد؛ والشخصية الأخيرة بالذات هى الأهم فى التعبير عن الروح المصرية الوطنية، والتى لا تجد تناقضا بين الدين والوطن، وتفهم ألاعيب تجار الدين، والمنسى الذى يرد دينيا طوال الوقت على مقولات التكفيريين الدينية يتحدث أيضا عن الوطن، ويشرح على سبيل المثال، فى مشهد خاص لابنه الصغير أهمية سيناء، والمحاولات المتكررة لانتزاعها عبر التاريخ.
المسلسل إذن لا يتجاهل الفكرة الوطنية فى مقابل الخطاب الدينى، ولكنه يضع الرد على الخطاب الدينى التكفيرى فى المقدمة؛ لأن هذه الجماعات المسلحة ترتكز على بنية عقيدية دينية منحرفة.
نحن لسنا أمام جماعات مأجورة والسلام (عشان ما نوجعش دماغنا)، ولكننا أمام «دوجما كاملة» يجب الرد عليها بالتفصيل، ليس دفاعا عن الدين فحسب، ولكن من زاوية وطنية أيضا، فهذا الجندى الذى يحارب التكفيريين يجب أن يثق أنه على حق، وأنه لا تناقض أبدا بين الدفاع عن الدين، والدفاع عن الأرض والوطن.
الحقيقة أن وضع الدين فى مقابل الوطن (بمنطق إما الدين وإما الوطن) هو أحد مناهج التكفير المحورية، فالتكفيرى يقول إنه يموت فى سبيل الله، بينما يرى أن «الآخر» يموت دفاعا عن أشياء دنيوية، مثل حفنة تراب وقطعة قماش فى علم ملون، ووضع الدين فى مقابل الوطن بالنسبة للتكفيرى يتيح له ضمنيا أن يكون هو وأفكاره «ممثلا للدين»، بل يصبح التكفيرى فى هذه الحالة هو «الدين» نفسه بالألف واللام.
يجب أن يقوم المنهج المضاد على إثبات أمرين: الأول هو أن التكفيرى منحرف عن الدين (فكر الخوارج) ، والثانى هو محو أى تناقض بين الفكرة الدينية والوطنية، وهو ما يتمثل حرفيا فى أحمد المنسى، الذى يبدو متدينا ووطنيا فى الوقت نفسه، والذى يؤمن بأن محاربته للتكفيريين دفاع عن الدين وعن الوطن معا.
وضع ما هو «وطنى» فى مقابل ما هو «دينى» إذن هو المنهج «الخاطئ» لمناقشة هذه القضية الشائكة، وخصوصا مع التغيرات الكبرى التى حدثت فى السنوات الأخيرة، لصالح تغييب الوعى المجتمعى والفردى، وبمنهج واضح ولحوح، واستخدام الدين بذكاء فى خدمة أهداف سياسية.
المنهج الصحيح إذن هو أن تشكل الفكرة الوطنية البنية الصلبة للعمل كله، على أن تفكك الخطاب الدينى التكفيرى شيئا فشيئا، بل وأن تبسط هذا التفكيك لكى يصل إلى أقل الناس تعليما وثقافة، أن تقول لهم إن عقيدة العدو فاسدة، وعقيدتكم الدينية والوطنية هى الصحيحة.
هذه معركة المسلسل الفكرية الأساسية والأهم من معركة السلاح: اعرف عدوك، افهم عقيدته، فندها وحطمها، ثم حارب وارفع علمك.
لم يترك المسلسل الفكرة الوطنية المصرية أبدا، ولكنه يريد أن يثبت أنها لا تتناقض مع محاربة الفكر الدينى المنحرف، وأنه لا تناقض بين أن تكون متدينا وبين أن تكون وطنيا، وأنه لا يوجد أى مبرر لخيانة الوطن، حتى تحت لافتات دينية باطلة، ومن يفعل ذلك يرتكب جريمتين، وليس جريمة واحدة: الانحراف بالدين، وخيانة القسم الذى أقسمه.
منهج المعالجة صحيح فى رأيى بامتياز، بل لعله أفضل نقاط قوة المسلسل، وأفضل ملامح اختلافه عن كثير من الأعمال جهيرة الصوت، سواء فى الماضى البعيد، أو فى الماضى القريب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved