وحيد حامد وعادل إمام وألبير كامو مع الأوبئة!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الخميس 14 مايو 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

من المعروف أن الأدب والفن نوعان: الأول يؤرخ للماضى وللحاضر، كحالة الأديب نجيب محفوظ، والثانى يتنبأ بالمستقبل، فيتصور بخياله واقعا جديدا، يدفع الإنسان للاستلهام والإبداع والابتكار، وهؤلاء يعتبرون قاطرة البشرية فى الدراسات العلمية والإنسانية، نرى القصص ذات الخيال العلمى هى التى وجهت العلماء لاكتشافات أصبحت فى حاضرنا واقعا، ونذكر، على سبيل المثال، قصة «من الأرض إلى القمر»De la Terre à la Lune (1865) للكاتب الفرنسى جول فيرن Jules Verne أى قبل قرن من نزول نيل أرمسترونج على سطح القمر فى 1969.
تنبأ لنا ثلاثة مبدعين، فى عصرنا الحديث، بأحداث وباءيْن من صنع الخيال: الأول أديب، والثانى والثالث فنانان سينمائيان؛ الوباء الأول جاءت أحداثه فى قصة أدبية، والثانى فى فيلم سينمائى، كان لهما تأثير كبير فى عالم الأدب والفن والفلسفة والسياسة:
الوباء الأول وصفه الفيلسوف الفرنسى ألبير كامو (Albert Camus)، فى روايته «الطاعون La Peste ــ1947» التى حازت على جائزة نوبل (1957)، تضمنت مواقفه الفلسفية عن «الوجودية» و«العبثية» الناتجة عن كوارث الحرب العالميّة الثانية التى جعلت معدّل الموت أكبر من معدل الحياة! وصف فى الرواية تفشى وباء الطاعون، فى مدينة وهران الجزائرية، الذى نجم عن تراكم القمامة، وجثث الفئران فى الشوارع، فيُفرض على المدينة الحجر الصحى، لا يُسمح لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها، ويرى كامو أن تفاقم الوباء حدث نتيجة «عدم الشفافية» لدى السلطات الحاكمة للمدينة، وعدم المصداقية فى الصحافة، اللذين أنكرا تفشى الوباء، أو الادعاء بمحدوديّة تأثيره، على الرغم من أن رائحة الموتى تفوح من كل مكان!
ويَكشف لنا كفاح أبطال الرواية عن «العبثية» فى مواجهة الوباء، فالعبثية ‏مدرسة أدبية فكرية، تُعبّر عن حالة الصراع بين رغبة الإنسان للبحث عن هدفه من الحياة، وعدم مقدرته على تحقيق هذه الرغبة، فكل فرد فى القصة صارع وبذل قصارى جهده من أجل البقاء، ولكن قدراته لم تُعنه على تحقيق مُبتغاه، فالموت كان حتميا على الأغلبية!
أصاب الطاعون كل فئات المجتمع، لكن أكثر الضحايا كانوا من الطبقة الشعبية غير المحصنة من خطر الموت، لا بالعلم ولا بالمال، فالعبثية تُعبر عن التناقض، وعدم وجود العدالة فى الحياة الدنيا، فالأشياء السيئة ليس بالضرورة أن تصيب الأشخاص الفاسدين، ولكن العكس يمكن أن يحدث، تُصيب الأشخاص الصالحين، فالمصائب لا تفرق بين شخص «صالح» وآخر «طالح»، والعكس أيضا صحيح، فمن الممكن أن يُصيب النجاح والخير غير أهله، ففى أى لحظة زمنية، يمكن أن يحدث أى شيء ــ خير أو ضرر ــ لأى شخص، وذلك بسبب عبثية الحياة!
والرواية تكشف أيضا «وجودية» المؤلف من خلال شخصية الطبيب (ريو)، ودوره فى مواجهة الوباء والقضاء عليه، فى مقابل تفسيرات رجال الدين المتناقضة، مع العلم بأن فى الوجودية فوارق عميقة فيما يتعلق بالدين، حيث إن بعض الفلاسفة ينادون بالوجودية المؤمنة، ويعتقدون أن بالصلاة وبالدعاء يشارك الإنسان بوجوده، وهذه لا نعارضها. أما الوجودية الإلحادية لنيتشة، ومن بعده سارتر، فنحن نُعاديها، لأنها تَعتبر أن العظمة ليست لله، وإنما للحرية المطلقة التى ليس لها سقفا، فتُشرع للمثلية الجنسية، على سبيل المثال، ولا تُؤْمِن بأى ثوابت، والغاية فيها تبرر الوسيلة، وهذا هو التيار الحاكم فى الغرب، ولعل أوضح مثال موقف الرئيس الأمريكى ترامب حين اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مُخالفا لكل القوانين والمواثيق، فى سبيل الحصول على الدعم الصهيونى فى الانتخابات الرئاسية القادمة!
جعل كامو شخصية الطبيب ريو وجوديّة، تَعتَبر الإنسان مسئولا عن نفسه، وتؤمن بالواقعية القابلة للتغيير للتوافق مع ظروف الحياة، زمانيا ومكانيا. كان الطبيب نموذجًا للإنسانية، ليس لأن مهنته عنوان الرحمة فحسب، بل لأنها تؤمن بالوجود الإنسانى المجرد، فلا يُفرق بين أفراد مجتمعه، يُعالج الفقير والغنيّ، النافع والضار، لا يُميز بين أحد منهم، فضلا عن تفاعله الإيجابى مع معترك الحياة، لقد تمرد على الموت مقابل الدفاع عن وجوده، ووجود أفراد مجتمعه، فهو الذى اكتشف الطاعون، وسخّر كل إمكانياته المهنية والإنسانية لعلاج أهل المدينة.
أما عن دور رجال الدين، فلم ير كامو فى تفسيراتهم سوى التناقض الذى يتصف بالعبثية، من خلال تقديم الأب (بانولو) عظتين متناقضتين: الأولى فى بداية اجتياح الطاعون للمدينة، كان تفسيره أن الطاعون ليس مرضًا أو وباء، بل هو بلاء، أرسله الرب كعقاب لأهالى المدينة غير المؤمنين، وعليهم أن يخرّوا راكعين طالبين التوبة والمغفرة؛ وفى العظة الثانية، فى نهاية الوباء، اعتبر البلاء ابتلاءً إلهيا، حسب تفكيره، فرَّح فيها الأهالى، بقوله هذا الابتلاء امتحان لصبرهم على فراق أحبتهم الذين قضى عليهم الطاعون، مُبَشرا إياهم بالجنة، هذا فى الوقت الذى كان الطبيب يبذل جهودا جبّارة فى البحث العلمى، لاكتشاف مصل جديد للقضاء على الوباء!
بذلك قدّم كامو نفسه فيلسوفًا وجوديًا بتجاوزه الألم والخوف والتفكير فى مواجهة الموت؛ مؤمنًا بذاته وبالعلم، مقابل تناقض تفسيرات رجال الدين، والذين كشفوا عن عجزِهم بالمشاركة الإيجابية أوقات الشدة، إلاّ بالدعاء والابتهال والاستغفار أحيانا، وبالتفسيرات المضللة أحيانا أخرى، هذه المفارقة، بين العلم وبين تفسيرات بعض رجال الدين، تضع الإنسان أمام تحديات معرفية تفصل بين عالمين متناقضين: العالم الواقعى الذى نعيشه، والعالم الميتافيزيقى الموجود فى المخيلة، وصاحب السلطة الإلهية، والسلطة النيابية عن الإله، المتمثلة برجال الدين.
***
والوباء الثانى، لم يأت فى صورة فلسفية متعمقة، مثلما فى رواية «الطاعون»، ولكنه جاء فى صورة اجتماعية وسياسية كوميدية، قدمه السيناريست وحيد حامد لفيلم «النوم فى العسل» (1996) ــ إخراج شريف عرفة ــ وبطولة الفنان عادل إمام الذى قام بدور رئيس مباحث القاهرة (العقيد مجدى نور)، ومن خلال التحقيق فى عدد كبير من محاضر عنف بين الأزواج فى كل أحياء العاصمة، عنوانها «الرجالة معرفوش!»، يكتشف وجود فيروس أصاب الرجال بالعجز الجنسى، يُصاب هو نفسه به، ويصبح وباءً، ويحاول إبلاغ كبار المسئولين فى الدولة لإيجاد علاج للفيروس، ولكن الحكومة تحاول إخفاء الأمر، خوفا من مجابهة المشكلة، لضعف إمكانياتها، فيرفض مجلس الشعب، ووزارة الصحة التحقيق فى هذا الأمر، على الرغم من خطورته، ويلتقى بالصحفية الشابة سلمى عاشور (شيرين سيف النصر) التى تحاول نشر الموضوع فى الصحافة، ولكنها تصطدم بمعارضة رؤسائها!
تكاد تتوافق أحداث فيلم «النوم فى العسل» مع أحداث رواية «الطاعون»، ومع ما يحدث أيضا فى الحاضر مع وباء كورونا فى مصر! نرى فى الفيلم أن أول من تكلم عن الوباء، بعد رئيس المباحث الذى اعتبره قضية أمن دولة، لأنه أخطر من الطاعون، هم رجال الدين الذين اعتبروه غضب من الله، وعذاب لعباده الظالمين فى الدنيا قبل الآخرة، مثلما حدث لآل فرعون الذين غرقوا فى البحر، وطوفان قوم نوح، وريح قوم عاد.. إلخ، فهم يرون أن بطش ربك لشديد، ويطلبون من الناس أن يستغفروا الله، وأن يتوبوا إليه «علشان نرجع زى ما كنا»، هذا هو قول الخطيب فى المسجد! وفى الكنيسة، الخطاب لم يختلف، يقول الكاهن: «نسأل الرب أن يرحم عبيده الذين رقدوا، وأن يُنقذ الذين لم يرقدوا بعد»، ويضيف: «علينا أن نسأل أنفسنا، أى فعل آثم أتيناه حتى تَلحَق بنا تلك المصائب المدمرة»!
ويتفوق الفيلم على رواية كامو بتدخل فئات غير موجودة فى الغرب، فتُزيد الطين بلّة، وهم العطارون بوصفاتهم الشعبية، والدجالون الذين يتضح، من خلال الفيلم، أنهم لا يبالون بقوة الدولة الممثلة فى الشرطة، لأن تأثيرهم ورصيدهم الشعبى أقوى بكثير من رصيد الشرطة، وهذا مَثّل تحديا لرئيس المباحث، فلم يستطع القبض على الدجال شحتة السباك الذى أوهم الناس بأن العلاج لديه، فخرجت المظاهرات النسائية لتحفيز الرجال ضد الضابط بصيحاتهن: «الحكومة عايزاكم موكوسين على طول، مولانا حيرجعكو زى ما كنتوا، زى الأسود فى الغابة، والنسور فى السما»! فضلا عن رواج تجارة المخدرات المسكوت عليها، كما يقول رئيس المباحث!
ومن الغريب أن يكون علاج هذا الفيروس هو «التباعد الاجتماعى»، فقد اصطحب العقيد مجدى زوجته خارج العاصمة، فى الصحراء، وهناك استطاعا إقامة العلاقة الحميمة بدون مشاكل!
***
مما سبق، نستطيع القول بأن رواية الطاعون أبرزت قيمة الحريات، من خلال فرض الحجر الصحى على المدينة، وتحوّل سكانها بعبثية إلى سجناء، وبَيَّن فيلم «النوم فى العسل» أهمية الشفافية، وحرية الصحافة، وحريّة التعبير، كما أن كلا العمَليْن تجاوزا الغاية المباشرة لأصحابهما، ككل عمل إبداعى كبير، فقدّما قراءات مفتوحة على مستويات مجازية متعددة لفيروسات متنوعة يمكن أن تصيب المجتمعات مثل: الثّقافة المنحطّة، والإعلام المنفلت، والأفكار الفاشيّة، والخزعبلات الشعبية، والهوس الدينى للمتطرفين، نتيجة تجاوز السلطتين الأمنية والدينية، وكل ما يعوق حرية الإنسان، وكلها تأتى لأسباب معروفة للجميع أهمها غياب النظم الديمقراطية، وغياب التعليم المتميّز!
فهذا ما خَلُص به الحوار الذى دار بين رئيس المباحث والطبيب المعالج للمصابين بالفيروس ــ أحمد الأيوبى (لطفى لبيب) ــ عندما سأله الضابط عن سبب حالة الإحباط للشعب، وعدم الرغبة فى الحياة، والإقبال على الأكل مثل الخنازير، فكانت إجابته بأن سماع الكذب من المسئولين، وفى الإعلام، والخوف من المستقبل، يُسبب خللا فى وظائف «المُخ»، وعن سؤال الضابط عن العلاج، يجيب الدكتور بأن العلاج الوحيد هو «العلم»، وأن «اللى معندوش مخ معندوش إحساس بالمشكلة»، وأن «عدو الشعب الجهل والنفاق»!
وختاما، نلاحظ أن الأحداث الخيالية المؤلمة التى وقعت فى مدينة (وهران) الجزائرية، فى رواية «الطاعون»، وفى العاصمة (القاهرة) فى فيلم «النوم فى العسل»، قد تطابقت تماما مع الأحداث الواقعية التى جرت أخيرا فى مدينة (ووهان) الصينية، والتى انطلق منها فيروس كورونا، وتحوله منها إلى جائحة أصابت العالم كله، وذلك بسبب عدم الشفافية، والتعامل الأمنى السيئ للسلطات المحلية لمدينة ووهان، فقد أجبرت الشرطة الطبيب الصينى لى وينليانغ على الصمت، فهو أول من حذر من تفشى فيروس خطير فى المستشفى، عبر وسيلة للتواصل الاجتماعى فى الصين!
وهكذا تعكس قصة الطبيب الصينى الضحية لى وينليانغ تطابق الخيال فى الماضى مع الواقع فى الحاضر، فمن وهران، مرورا بالقاهرة ووصولا لووهان لا تحزن يا قلبى، فإن العالم كما يبدو يسير نحو الهاوية!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved