لعبة الأديان في مسلسل أم هارون

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الجمعة 15 مايو 2020 - 12:26 م بتوقيت القاهرة

 كثير هو ما كُتِب عن المسلسل الكويتي أم هارون الذي يُعرض حالياً علي قناة MBC من زاوية ترويجه للتطبيع مع إسرائيل، وساعد علي ذلك أن توقيت إذاعة المسلسل جاء في ظل تسارع التطبيع السياسي والاقتصادي ما جعل البعض يقول إنه لم يتبق إلا التطبيع الثقافي مع "أولاد العم " لتُطَوي صفحة ما كان يُعرَف بالصراع العربي الإسرائيلي. أما هذا المقال فإنه يتعرض لخط درامي آخر في المسلسل هو الخاص بالعلاقة بين المكونات الدينية المختلفة في المجتمعات الخليجية، وبطبيعة الحال فإن الحديث عن مجتمعات الخليج العربي باعتبارها كانت متنوعة الديانات في النصف الأول من القرن العشرين ينطوي على شيء من التجاوز بالنظر إلى محدودية التنوع الديني فيها مقابل تنوعها المذهبي (السني/الشيعي)، وتلك نقطة أعود لتفصيلها أكثر لأنها وثيقة الصِّلة بمدي تماسك العمل الدرامي.
***
إن الشخصية المحورية في مسلسل أم هارون التي يلتف حولها الجميع ويثقون فيها ويحلفون بحياتها ويحتكمون إليها، هذه الشخصية هي الممرضة سمحة اليهودية التي أحبت خليفة المسلم سليل العائلة الكبيرة وتزوجته وتحولت معه من اليهودية إلى الإسلام. والمعني هو أن هذه المرأة المتفتحة لا مشكلة لديها مع أي دين فكل الديانات السماوية تعبد الله وبالتالي فأن تتحول من اليهودية إلى الإسلام فالأمر بالنسبة لها سيان. كما أن المعني هو أن هذا الفهم المتفتح للأديان هو الذي يقرب سمحة اليهودية/ المسلمة من كل أبناء البلد الخليجي الذي تعيش فيه بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. لكن في حقيقة الأمر فإن الانفتاح على الديانات الأخرى لا يشترط التحول من دين لآخر فهذا شئ وذاك شئ آخر تماماً. الانفتاح يعني قبول الآخر المختلف دينياً واحترام حقه في التمايز وفي ممارسة شعائره بحرية، أما التحول الديني فإنه يعني الذوبان في الآخر المختلف دينياً سواء كان هذا الذوبان فعلياً نتيجة الاقتناع بتعاليم الدين الآخر، أو كان ذوباناً شكلياً كما يحدث عادة عند زواج المسلمة بغير المسلم. الانفتاح يحمي التعدد والذوبان يلغيه من أساسه، الانفتاح يحقق التعايش والذوبان يفجر الصراع. وبالفعل فإن تحول الممرضة سمحة من اليهودية للإسلام فتح أبواباً للصراع  بينها وبين أهل زوجها الذين لم يتقبلوا وجودها بينهم لذلك انتقموا منها شر انتقام وانتزعوا منها ابنها، كما أن تحولها الديني فتح باباً آخر للصراع مع أبناء ملتها الذين لم يغفروا لها قط أنها تركت دينهم حتى أن داوود الحاخام دعا رب موسى أن يُنزل عليها عشر ضربات كتلك الضربات التي تلقاها فرعون. 
***

وسوف تلازم لعبة الغواية الدينية ومحاولة تذويب الآخر المختلف في العقيدة- أحداث المسلسل بعد ذلك، فها هي مريم المسيحية الكاثوليكية تريد أن تتزوج من "أبو سعيد" نكاية في حبيبها جبر الذي تخلى عنها وفضل عليها ابنة عمه عالية طمعاً في مالها. وعندما عاتبها المطران صموئيل قائلا إنه لا يليق بها أن تتزوج شخصاً من غير ملتها ردّت عليه بأنها عندما تدخل العائلة المسلمة ستبشر بالمسيحية بين أفرادها. وبالفعل فمع أن ارتباط مريم "بأبو سعيد" كان من باب كيد النساء لا أكثر لأنها في الأصل امرأة لعوب وليست امرأة متدينة، إلا أننا وجدناها في مشهد تمثيلي مفتعل تسلم الإنجيل "لأبو سعيد" قائلة إنه رجل عاقل وإنها تتمنى أن يهديه عيسى!! يا سلام.. إن الأمور لا تؤتي هكذا يا سادة، ومن غير المعقول أن "أبو سعيد" الذي رفض أن يتربى ابن أخيه في بيت أمه سمحة رغم إسلامها سيتحول هو نفسه من الإسلام للمسيحية على يد زوجته. وفي مشهد تمثيلي مضاد يلقي "أبو سعيد "خطبة دينية عصماء على مسامع زوجته مريم لينبهها إلى أنه لا يعتزم الخروج عن ملته لمجرد أنه ذهب معها إلى الكنيسة مرة أو اثنتين، فمع أن سيدنا عيسى من أكرم أنبياء الله والمسلمين يؤمنون به وبكتابه، لكن النبي محمد هو خاتم الأنبياء. وكما مدت مريم يدها بالإنجيل لزوجها مد هو يده إليها بالقرآن الكريم لتقرأه لعل الله يفتح بصيرتها على الحق كما قال. وفي تطور آخر مواز فإن المطران صموئيل راعي الكنيسة الكاثوليكية في البلدة- حاول تنصير أطفال اليهود، حتى إذا عثر الحاخام داوود على الكتاب المقدس مع طفل كان يصلي داخل المعبد هاج وماج وصبّ جام غضبه على المطران. وبينما يرفض الحاخام تنصير اليهود يحاول هو تهويد جبر المسلم كي يكون جزءا من شعب الله المختار فيرد عليه بأنه مقتنع بدينه. 

***
باختصار فإنني كمشاهدة افتقدت التعددية الدينية التي أراد مؤلفا المسلسل محمد وعلي عبد الحليم شمس أن يقنعاني بأنها كانت هي الأصل في المجتمع الذي تدور فيه الأحداث، وذلك أن مقتضى التعددية ألا يحاول كل طرف غواية الطرف الآخر لإدخاله في دينه، وما شاهدناه هو عكس ذلك على طول الخط، فها هي الممرضة اليهودية تتحول للإسلام ويحاول الحاخام في المقابل تهويد ابنها، وها هي المرأة المسيحية اللعوب تحاول تنصير زوجها المسلم بينما يحاول زوجها في المقابل أسلمتها، وها هو مطران الكاثوليك يتحسر لأنه فشل في تنصير اليهود والمسلمين لأن الجميع يتمسكون بدينهم، فعن أي تعددية يكلمنا المسلسل إذن؟ إن مجتمع أم هارون هو مجتمع يرفض التعددية ولا يتسامح مع الاختلاف العقائدي ويرى أن السبيل الوحيد للتعايش هو أن يكون الجميع نسخة دينية واحدة طبق الأصل. وليس صحيحاً أن الصراع وافد على هذا المجتمع وأنه أفسد تعدده، فكل العلاقات فيه كانت تحمل داخلها بذور الصراع وذلك ببساطة لأن الكل كان يلعب على الكل ويحاول إخراجه من ملته وتذويب خصوصيته، الكل يقتنع أن دينه هو الحق وأنه يفعل خيراً في أهل البلدة عندما يدعوهم لدينه ويبشرهم بمبادئه.

***

أعجبني تعليق أحد النقاد على المسلسل الكويتي أم هارون بأنه يعكس تأثر مؤلفَيه بالمسلسل المصري حارة اليهود، وهذا كلام سليم فعلاً لأن التشابه بين بعض الأحداث هنا وهناك واضح ولأن الفترة التاريخية واحدة، لكني أضيف أنه بجانب هذا التشابه الفعلي يوجد اختلاف بين العملين في النقطة التي يهتم بها مقال اليوم أي الموقف من التعددية. وذلك أن ليلى اليهودية بطلة المسلسل أحبت الضابط "علي" ولم تغير دينها، كما أن الشخصيات الأخرى لم تلعب لعبة التناصح الديني الساذج ولا مارست محاولات التذويب الديني في تفاعلاتها مع بعضها البعض، فزوجة اسطفانوس أفندي المسيحية ارتبطت بعلاقة آثمة مع موسى اليهودي فلا هي نصرّته ولا هو هوّدها، باختصار بينما جاء مسلسل حارة اليهود ليعكس الواقع التعددي الاجتماعي المصري ويصوره كما كان في تلك المرحلة من الزمان، تباكى مسلسل أم هارون على زوال التعددية الدينية عن ذلك المجتمع الخليجي بينما هو لم يقدم لنا سوى شخصيات أحادية التفكير ولا تستطيع التعايش إلا مع من يشبهونها في الدين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved