فى ذكراه.. «الجابرى» ناقد العقل العربى

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 14 مايو 2022 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
فى الثالث من مايو الجارى، مرت اثنتا عشرة سنة على رحيل المفكر والمنظر وناقد الفكر والنظم المعرفية د. محمد عابد الجابرى (1936ــ2010)، الذى كانت كتبه الضخمة ومقالاته الغزيرة هى أنيسى ورفيقى طوال سنوات الطلب (فى الجامعة، وعقب التخرج). كان الجابرى أكثر من تعلقت بكتاباته، وتأثرت بأفكاره من بين كل الأسماء التى كنت أتعرف عليها آنذاك، مصريا وعربيا، فى بحث موضوع إشكال التراث ونقده، وتجديد الفكر والنهوض الثقافى، وثنائية الفكر الدينى والحداثة عمومًا.

ــ 2 ــ
محمد عابد الجابرى (1936ــ2010)، أحد أهم المفكرين العرب المعاصرين، وصاحب المشروع الفكرى النقدى الكبير «نقد العقل العربى»؛ ضمن مجموعة أخرى من المشروعات المعرفية الكبرى فى تجديد الفكر والنظم المعرفية والثقافية للحاق بركب الحضارة الحديثة، وتجاوز إشكالات التخلف والتراجع الحضارى التى يعانى منها عالمنا العربى والإسلامى منذ قرون.
كان الجابرى أحد الأصوات الفكرية والفلسفية التى تميزت وتفردت بمسارٍ فكرى ومعرفى ذى خصوصية فريدة، وسط كوكبة من الكتّاب والمفكرين العرب عمومًا كانت رغبتهم محمومة فى النقد والمراجعة والسؤال؛ عبر توظيف جملة من المفاهيم والتصورات التى أنتجتها الثقافة الغربية؛ وسعى كل منهم بطريقته وخياره المنهجى والفكرى تكييف هذه المفاهيم والتصورات لتناسب درس الفكر العربى والإسلامى، وإشكالاته المزمنة.
ولمعت مشاريع كبرى لأسماء، مثل: حسن حنفى (مصر)، وطيب تيزينى (سوريا)، ومحمد جابر الأنصارى (البحرين)، فى المشرق العربى، وفى المقابل تألقت كوكبة باهرة من المفكرين المغاربيين (ينتمون إلى المغرب العربي؛ بمعناه الجغرافى الكبير الذى يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) الذين لفتوا الأنظار بشدة فى النصف الثانى من القرن العشرين، بمشروعاتهم الفكرية الرصينة، وجدة أطروحاتهم وصرامة مناهجهم العلمية فى البحث والتحليل، كوكبة شهدت أسماء عبدالكبير الخطيبى، وعبدالله العروى، ومحمد عابد الجابرى. ومن الجزائر محمد أركون، والتونسى هشام جعيط، والليبى عبدالله النعيم، وصادق النيهوم، وغيرهم. يلخص الجابرى هذه النزعة النقدية المحمومة، فى ذلك الوقت؛ بقوله:
«الفكر العربى المعاصر مطالب بنقد المجتمع، ونقد الاقتصاد، ونقد العقل.. العقل المجرد، والعقل السياسى. إنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة الوطنية، حديث أمانى وأحلام».. (راجع كتابه «العقل السياسى العربى»).
ــ 3 ــ
ومن بين كل الإسهامات التى طرحت لمعالجة إشكاليات الفكر العربى، فى الراهن وفى التراث، وعلى رأسها إشكال التجديد، وتجاوز المأزق التاريخى والراهن، والخروج من نفق ثنائية التراث والحداثة، برز مشروع الجابرى مترامى الأطراف وباتساعه المحكم وتخطيطه الصارم ليغطى، أفقيا ورأسيا، معظم إن لم يكن كل الإشكاليات والقضايا والموضوعات المتصلة بالعنوان الرئيس «معرفة التراث ونقده.. تحليل الفكر وتجديده.. الانطلاق نحو المستقبل».
أبرز ما كان يميز الجابرى وكتاباته هى نزعته التحليلية الشارحة؛ كان مدرسا بالفطرة، لديه القدرة على تبسيط وتذليل أصعب الأفكار وإن بدا أنه يستخدم أو يصك مصطلحات معقدة أو تطرق السمع للمرة الأولى أو أنه ينتقل من بيئات ومجالات علمية متشابكة ومتداخلة؛ لكنه كان بارعا كل البراعة وهو يخوض أدغال الاصطلاح والمفاهيم التراثية وهو يترجم المصطلحات والمفاهيم الغربية الحديثة التى يستعين بها فى التحليل.
ــ 4 ــ
أذكر جيدا أن بابا الفاتيكان السابق البابا بينيدكتوس قد ألقى خطابا فى مناسبة ما وضمنه عبارات مست مشاعر المسلمين الدينية وانقلبت الدنيا، وأثار الرجل موجة من الحدة والغضب، وأشعل روح الصراع والمواجهة بصورة غير مسبوقة.
من بين كل من تصدوا (لا أقول للرد وإنما لتفكيك وتحليل الخطاب ورده إلى جذوره المعرفية والفلسفية) كان محمد عابد الجابرى النجم المتألق الأبرز فى إنشاء هذا الخطاب التحليلى التفكيكى؛ وعلى مدار أحد عشر أسبوعا قدَّم الجابرى قراءته وتحليله لخطاب البابا وكشف عن مشكلاته وتناقضاته وعواره المعرفى والتاريخى والفلسفى.
أذكر أننى قرأت ما لا يقل عن عشرة ردود كاملة؛ بما فيها رد شيخ الأزهر آنذاك المرحوم الدكتور محمد سيد الطنطاوى، والذى لم يفارق أدبيات الرد التقليدى بالالتجاء إلى آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ووقائع التاريخ الإسلامى، وكأنه يخاطب مسلما مؤمنا نشأ فى رحاب الإسلام وتربى فى ربوع ثقافته، وليس يخاطب بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية فى العالم أجمع!
بهرنى الخطاب الجابرى بمعقوليته وتماسكه ومنهجيته المحكمة؛ وسياحاته العميقة فى مجالات التراث العربى والإسلامى كافة، وعلوم الفلسفة ونظرية المعرفة والتاريخ وفلسفته وعلم الأديان المقارن وعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا. كان ماهرا وقديرا وموسوعيا رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
ــ 5 ــ
من بين كتبه الغزيرة والمتنوعة والمثيرة للشهية والفكر والتفكير والنظر، كان مشروعه الأهم والأكبر «نقد العقل العربى» الذى يتكون من أربعة أجزاء: «تكوين العقل العربى» (1984)، «بنية العقل العربى» (1986)، «العقل السياسى العربى» (1990)، «العقل الأخلاقى العربى» (1992) هو واسطة العقد فى إنتاجه كله.
قراءة هذا المشروع لا تجعلك كما كنت أبدًا، لا يهم إن كنت ستتبنى مقولاته ولا فروضه ولا تحليلاته، لكن بالتأكيد ستتوقف أمام القدرة الفذة على البحث والتقصى والتنقيب المخلص وقراءة النصوص وتحليلها والمقارنة بينها وبين نظائرها فى ثقافاتٍ أخرى، وكذلك القدرة الفائقة على توظيف مكتسبات ومنهجيات المعرفة الحديثة؛ إجرائيا وتحليليا، فى درس مادة هائلة وشاسعة ومترامية الأطراف كالتراث العربى على مدى عشرة قرون، والقدرة على استخلاص تصور منطقى وعقلانى لمكونات هذا التراث وأسسه وأعمدته وعوامل تكوينه وعناصر تشكله.
لا أنكر أننى ظللت سنوات طويلة (وما زلتُ) أحمل تقديرا كبيرا وعميقا وامتنانا خالصا لهذا الرجل المثقف المفكر والمنظر من طراز فريد. رحم الله الجابرى رحمة واسعة وجزاه عنى وعن غيرى، ممن تعلموا منه وأفادوا من علمه الغزير، خير الجزاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved