الفلسفة والبحث عن بدائل

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 14 مايو 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

خلال الأشهر الأولى من جائحة كورونا تابعت باهتمام البث الحى لمحاضرات الفيلسوف الفرنسى إيريك سادان التى نظمها عبر الإنترنت معهد الدراسات السياسية بباريس. يحتل هذا الأخير مرتبة عالية ضمن أفضل المؤسسات البحثية فى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما يعد المُحَاضر الأربعينى من أبرز المتخصصين فى الثورة الرقمية وتأثيرها على الفرد والمجتمعات. وكانت تحليلاته مختلفة فى ظل كل ما قيل وقتها حول التحولات الأخيرة للمجتمع، ونحن نراقبها من وراء الشاشات وتكاد أنوفنا تلتصق بها من فرط ما اعتمدنا عليها بالكامل لمعرفة ما يحدث حول العالم.
المفكر، الذى سيكون فى زيارة لمصر خلال الأسبوع الجارى للمشاركة فى الدورة العاشرة لمهرجان «كتابة وسرد المتوسط» الذى يعقده المعهد الفرنسى بالإسكندرية من 17 إلى 19 مايو، يربط عادة بين المجالات بشكل غير مسبوق ويصحبنا دوما فى رحلة للبحث عن بدائل، بما أننا وصلنا لدرجة من التشبع من النظام العالمى السياسى والاقتصادى السائد منذ قرابة نصف قرن. كل ما نشهده من حركات اجتماعية واحتجاجات وثورات هى طرق متنوعة للتنفيس عن غضب تجاه نظام لم يعد محتملا ولا مُرضيا للكثيرين، لكنهم لا يستطيعون تغييره ولا التأقلم معه. شىء ينتهى وآخر لم يتبلور بعد، ونحن وغيرنا نحاول ونحاول، وهنا يأتى دور الفلسفة لتكون صوتا مغايرا، فهى الإطار الذى يسمح للإنسان بفهم ما يحدث من حوله بصورة أعمق وباستخدام عقله للوصول لحياة أفضل. لذا رأينا فى السنوات الأخيرة كيف تحول بعض الفلاسفة، ومعظمهم فى منتصف الأربعينيات وبداية الخمسينيات، إلى نجوم يلجأ إليهم الوسط الإعلامى الغربى لتفسير بعض الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والنفسية، إلى ما غير ذلك، ومن بينهم إيريك سادان «فيسلوف عصر الرقمنة» الذى يحذر دوما من ذهنية وادى السيليكون والخمسة الكبار فى عالم التكنولوجيا الذين يسيطرون على المعطيات الخاصة بمستهلكى الإنترنت، وهم جوجل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت.
• • •
إيريك سادان يكتب نصوصا نظرية أحيانا وأدبية أحيانا، يقرض الشعر، فهو ضمن أربعين اسما وردوا فى أنطولوجيا الشعر الفرنسى المعاصر. يتحدث عبر منابر متعددة عن الأشكال الجديدة للسيطرة والمراقبة وكيف تطورت بسرعة فى ظل الجائحة، فرموز الحقبة الراهنة بوادى السيليكون الذى يمتد على مسافة 40 كيلومترا فى جنوب شرق سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا قد اجتاحوا العالم ونجحوا فى فرض منظومة ليبرالية تكنولوجية مهيمنة. وهو ما يرصده ويحلله من خلال مجمل أعماله، خاصة ثلاثيته الشهيرة التى تحاول تتبع تطور هذه المنظومة العالمية، وجاءت عناوينها على النحو التالى: «الحياة اللوغاريتمية، نقد للذهنية الرقمية»، «وادى السيليكون يجتاح العالم: الليبرالية الرقمية سحر لا يقاوم»، «الذكاء الاصطناعى أو تحدى القرن». هذا بالإضافة لمؤلفين آخرين مهمين وهما «عصر الفرد المستبد: نهاية عالم مشترك»، و«الانفصال، سياستنا الخاصة». كل هذه الأعمال صدرت عن دار نشر واحدة، وهى «ليشابيه» التى يشير اسمها بوضوح إلى الرغبة فى الهروب من قبضة السوق وتبنى أفكار مغايرة للسائد.
يصف عبر كتاباته الفرد المستبد الذى يظن أنه يحكم العالم لأنه يحمل هاتفا ذكيا ولم يعد ينخرط فى مشروعات جماعية، يعيش فى عزلة متزايدة، فى حالة فصام مربكة، فمن ناحية يخشى الفرد من سوء استخدام معطياته الشخصية ومن ناحية أخرى يشارك مجهولين حياته الخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعى وغيرها من الوسائط الإلكترونية، حتى إن شركات الدعاية والتسويق صارت تعرف فيما يفكر من قبل أن ينطق، فترسل له ما يحتاج من خلال تقفى أثره على المواقع المختلفة واتباع نظام شائك خاص باللوغاريتمات. وكل ذلك يصب دون شك فى مصلحة الرأسمالية المتوحشة والشركات الكبرى التى تقود العالم وتتحكم فى المشهد السياسى.
• • •
ينتظر الناس قدوم الانتخابات على أمل تغيير حياتهم للأفضل فتتكرر السيناريوهات دون جدوى، أو ينزلون إلى الشارع وسرعان ما يتحول المشهد أحيانا إلى حركات عنيفة أو قد يتطور إلى صدام غالبا لا يفضى إلى الأهداف المرجوة، أو يتطلعون إلى عودة دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية كما فى أوروبا خلال أزمة الكورونا ولكن يتضح لهم بالتجربة أن النيوليبرالية قد تسربت إلى جميع مناحى الحياة وسيطرت على مفاصلها، فقد تغلغلت منذ الثمانينيات وأفرزت مجتمعا خياليا افتراضيا كاذبا بدعوى التوق إلى الكمال.
وعلى هذا النحو يدعو إيريك سادان إلى طرح سرديات بديلة، إلى عودة الباحثين إلى أرض الواقع بعيدا عن الخبراء الاستراتيجيين الذين يعرفون كل شىء عن كل شىء مستندين فقط على البيانات والمعلومات المجردة، إلى فتح نقاش مجتمعى، إلى عودة الدولة إلى وظائفها التقليدية والتخلى عن «نماذج الإدارة العامة الجديدة» الموجهة نحو السوق، إلى تكوين ائتلافات فى مجالات متعددة تعيد الأفراد إلى العمل المشترك وتساعدهم فى الوصول إلى طرق مختلفة للتعايش فيما أطلق عليه «ربيع الائتلافات».
يحلم الفيلسوف أن يأتى التغيير من خلال قطاعات صغيرة ثم يمتد إلى نطاق أوسع، باللجوء إلى تسويات دون الدخول فى نزاعات صدامية، وبعيدا عن سلوك الفرد المستبد الذى يظن نفسه مدعوما بالتكنولوجيا ويسعى إلى بدائل دون أن يعرف لها سبيلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved