«أحبُ المتصوّفة ولستُ منهم»

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 14 مايو 2022 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

يسألنى صديق عزيز، وقد قرأ ما كتبت عن الرؤية الصوفية فى مسلسل «جزيرة غمام»:
ــ هل أنت متصوف؟
يدهشنى السؤال، فلم أفكر فيه من قبل.
تسعفنى مقولة لنجيب محفوظ تفسر حالى وموقفى.
كان يقول: «أحبُ المتصوفة ولست منهم«.
سؤال الصديق فتح أمامى أبوابًا كثيرة للتأمل، واستعادة الذاكرة القديمة، فقد عرفت التصوف مبكرًا من خلال أبى، أستاذ الفلسفة وعاشقها الدائم.
كانت مكتبته حافلة بالكتب والمراجع الصوفية، إذ بدأ لفترة قصيرة الإعداد لرسالة دكتوراة لم يكملها عن المتصوف العارف عبدالكريم الجيلى، وكانت الرسالة تحت إشراف أستاذه الراحل الكبير د.أبو الوفا الغنيمى التفتازانى.
تولى التفتازانى، أستاذ الفلسفة الإسلامية، منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية، وكان رئيسًا لتحرير مجلة «التصوف الإسلامي«، التى يحرص أبى دائمًا على اقتنائها، وكانت من أوائل المطبوعات التى قرأتها فى بيتنا.
رأيت فى مكتبة أبى، حشودًا هائلة من كتب الفلسفة، بينها كتب عن الصوفية، وعن نصوص المتصوفة، فحاولت مبكرًا «الدعبسة« فى أوراقها، دون ادعاء الفهم الكامل، من «الرسالة القشيرية» إلى ديوان سلطان العاشقين عمر بن الفارض.
تفتحت أمامى عوالم ذهبية، متفردة وغريبة، وانتقل افتتان أبى بأشعار سلطان العاشقين إلى ابنه الصغير الذى يحاول أن يفهم، وزاد فضول الصغير عندما وجد بعض أشعار المتصوفة، يلقيها المنشدون فى مولد سيد الضمرانى فى فرشوط، حيث تقيم العائلة، بل إن بعض الأشعار تسللت إلى حلقات الذكر فى العسيرات قرية أبى.
كنت أمارس طقس الذكر وسط المترنحين يمينا ويسارا، دون أن أعرف ماذا يفعلون؟
ذات يوم، وكنت فى السنة الأولى من المرحلة الإعدادية، حفظونا شعرا ملحنا أعجبنا جدًّا، كان يبدو وكأنه مكتوب لحلقة ذكر، يقول مطلعه:
أنتم فروضى ونفلى/ أنتم حديثى وشغلى
يا قبلتى فى صلاتى/ إذا وقفتُ أصلى
وكان ينتهى ببيت حفر عميقًا فى القلب والذاكرة:
أنا الفقير المعنّى/ رقّوا لحالى وذلى

عندما ذهبنا بالنشيد، الذى يردده كورال كنت بينهم، إلى مسابقة مدرسية، اكتسحنا الإعجاب، وصفقوا لنا، وانضم إلينا فجأة رجل يحمل دفا، كان يحفظ النص، عرفنا فيما بعد أنه منشد، استخفه الطرب، فشارك وتمايل، وأضاف أبدع.
حيّرنى وقتها أن الرجل يعرف الأبيات، وكنت أظنها خاصة بمدرستنا، ومن تأليف أستاذنا مثلا، حتى اكتشفت أن القصيدة ضمن ديوان سلطان العاشقين، ومنه انفتح الباب، فى مراحل تالية، على قراءات أشعار كبار المتصوفة والعارفين، وعلى قراءات متعمقة عن التصوف.
الشعر عمومًا يعيد اختراع اللغة، ويقوم بتوظيفها لفظًا وموسيقى وعلاقات وأبنية، لكن الشعر الصوفى يصل إلى مستويات لامعة حقا، إذا أنه يقدم تقريبا لغة كاملة موازية وبديلة، غير تلك التى نعرفها، بحيث يمكن الحديث عن قاموس خاص للشعر الصوفى، فلا الخمر هى الخمر الأرضية، ولا ليلى هى ليلى العامرية، ولا التجربة هى التجربة التى نعرفها فى أبيات العاشقين.
منْ هؤلاء الممسوسون بالوجد والعشق الأبدى؟ كيف اتسعت التجربة فضاقت العبارة وصار من المحتم أن يعاد اكتشاف اللغة بشكل كامل؟ كيف تصبح الإشراقات المعاشة نصوصا مكتوبة شعرا ونثرا؟ وكيف اتسع العالم بالحب حتى شمل كل شيء، أو كما يقول ابن عربى:
أدين بدين الحب أنى توجت ركائبه/ فالحب دينى وإيمانى
أسرتنى المعانى المتضمنة، هناك سحر غامض، وفن جديد تماما يقول ولا يقول، له ظاهر وباطن، وأذهلتنى فكرة التكثيف والإيحاء، لا مباشرة ولا ثرثرة، يتحدثون عن المعنى بلغة خاصة، لا يريدون الإغراب أو التعمية، حتى لو أوقعهم ذلك فى سوء الظن.
التجربة تفرض شكلها، وليكن ما يكون، هذه النشوة لا يمكن التعبير عنها بصورة تقريرية، ولا حتى عبر مجازات مألوفة، لذلك اعتبرت النصوص الصوفية، شعرًا ونثرًا، قفزة هائلة فى عالمى التجربة الروحية والتجربة الفنية على حد سواء، فتوحات فى الكتابة، وفى عالم العشق سواء بسواء.
يقول النفرى: «إنما أحدثك لترى/ فإذا رأيت فلا حديث».
كأن الكلام مجرد مفتاح للروح، للبصيرة الداخلية، الكلام ليس دلالة اصطلاحات ورموز، إنه أقرب إلى تميمة سحرية لا تعنى شيئًا فى حد ذاتها، ولكنها ستفتح لك كل الأبواب.
على مستوى الفكرة الصوفية التى أفرزت هذه النصوص الساحرة، حدثت تقاطعات كثيرة مع أفكارى الخاصة:
كنتُ، وما زلتُ مؤمنًا، بقوة الحب والعشق على كل المستويات، بل كنت وما زلت أرى الحب قانون الكون الأهم والأخطر. فى يقينى كذلك أن التخلى والتحلى، وهما من محاور الفكرة الصوفية، من العناوين الأساسية لترويض الحياة.
بدت لى دوما طقوس التجربة الروحية ملهمة ومؤثرة، هذا الجانب يستحق التأمل، هناك نقطة نور داخلية نشعر بها، لعلها النفخة الإلهية الباقية، تتراجع أحيانًا أمام سطوة الجسد، ولكنها سرعان ما تعبر عن نفسها فى موقف، أو فى لحظة إشراق.
وحدة الوجود أيضًا من الأفكار التى آمنت بها، ألمس تجلياتها فى كل مكان، ننتمى إلى هذه الطبيعة، إلى أمنا الأرض، والى عمتنا النخلة، والى أختنا الشجرة، ومن التراب وإلى التراب نعود.
لا يتجلى الله فحسب فى كتبه وفى كلام أنبيائه، ولكنه يتجلى أيضًا فى كل مخلوق من مخلوقاته، كبيرها وصغيرها، قد نرى ذلك بالعين، وقد نشعر بذلك بالقلب والروح، السر عمومًا فى القلب والروح وليس فى الحواس، المهم أن ترى، فإذا رأيت فلا حديث.
لم أجد تناقضا بين عقل الفلسفة، وقلب التصوف، بل رأيت تكاملًا مدهشًا، وبهجة إضافية.
فإذا كان جوهر التصوف هو كل ذلك، فأنا متصوف نظريًّا، ولكنى لا أمتلك صبر وجهد ومثابرة المتصوفين.
خائر العزم، ثقيل الخطوة أنا.
ولكنى طامع بلا حدود، فى كرم الأكرم، والأعظم.
وأنتظر برجاء لا يتزعزع.
أقول لصديقى فى النهاية:
«أحب المتصوفة ولست منهم»
«صدقا.. أنا يا عزيزى أضعف وأفقر من ذلك بكثير».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved