الحريات العامة.. الثروة التاريخية للبنان

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 14 مايو 2023 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

عرف لبنان نظرا للتركيبة الاجتماعية التى تمّ تأسيسه عليها منذ نشوئه، نعمة وجود حيّز كبير من الحريّات العامّة وتداول على السلطة ورخاء نسبى لمواطنيه ومواطناته رغم أنه ليس بلدا نفطيّا. لكن الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية، ليس فقط العسكرية بل حتّى خاصّة تلك اليوميّة لممثّلى الدول، أبرزت أنّ نموذج حوكمته «الديموقراطى يعتريه خلل جوهرى. ثم جاء الانهيار المالى ليقضى على الرخاء النسبى وليُفاقِم انعدام المساواة بشكل كبير وليعطل إمكانيات النمو. وانتهى الأمر بغياب أى إصلاح حقيقى يزيل آثار الأزمة وهيمنة مال وسلطة على وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدنى... وأخيرا كم أفواه المحامين والقضاة والملاحقات الأمنية للبنانيين والمقيمين.. ووصولا إلى منع نشر سعر صرف العملة الوطنية فى السوق.
فماذا بقى من النموذج الذى كان يمثّله لبنان للشعوب العربيّة الأخرى.. وخاصّةً من حيث صون الحريّات العامّة و«الديموقراطية؟» وما المشهد الذى يقدّمه إذا آلت الانتفاضات العربيّة التى طالبت بالحرية والكرامة إلى نهايتها، ثم تم أخذها إلى آلام الصراعات الأهلية، إلى ما يشابه وضعه الحالى؟
• • •
هكذا يطرح النموذج اللبنانى تحديات جوهرية عدة. أولها حول معنى «الديموقراطيّة» ذاتها. فهل هى مجرّد انتخابات، ولو صوريّا حرة، ومجلس نيابى؟! فى ظل أحزاب شكّلها «أمراء حرب» طوائف وجماعات ومناطق، دون برامج لجميع مواطنيها ومواطناتها، وفى ظل نخر أسياد السلطة القائمة لمؤسسات الدولة، وتقاسمهم لجميع مستوياتها حتى أصغرها، وتعطيل وظائفها. فما الفرق إذا بين هذا «النظام الديموقراطى والأنظمة الشمولية؟ لا شىء سوى «تعددية السلطة».. لكن مع عطالة الدولة بانتظار توافقات محلية ترعاها دول خارجية. وحينما تأتى هذه التوافقات يتقاسم «أمراء الحرب» الغنائم من خلال الصفقات العامة والاحتكارات، دون إمكانيّة للمحاسبة، إذ إنها سرعان ما تخضع لاعتبارات توازنات اجتماعية يفرضها «أمراء الحرب» أنفسهم.
يقترح البعض «اللامركزية» كحل سحرى وهمى، فقط بغية إلغاء التعددية، وكأن مؤسسات الدولة على الصعيد المحلى أكثر نجاعة وتستطيع إدارة الموارد المحليّة، وفى حالة لبنان إدارة تدفقات تحويلات المغتربين أو أموال الخارج، بشكل ناجع. وكأن «أمراء الحرب» ليسوا أيضا.. سلطة محلية تقوم على الزعامة والاستزلام.
هذا تحدٍّ حقيقى. إذ لا يُمكن إرساء ديموقراطية ولامركزية ناجعة دون أحزاب وطنية فاعلة، تشمل كافة الفئات الاجتماعية وذات برامج تطمح لازدهار الجميع، ودون دولة مؤسساتية قادرة وطنيّا على كبح الاحتكارات وتجاوزات السلطة وضمان أن هذه السلطة.. تقوم على التداول. هكذا أتى فشل محاولات إرساء «ديموقراطية» انتخابات ومجلس نيابى فى الدول التى شهدت انتفاضات «الربيع العربى»، بالتحديد لأن الأحزاب القائمة لم ترقَ إلى طرح يشمل جميع المواطنين والمواطنات وهبّت لتقاسم النفوذ ضمن الدولة، ما دفع القائمون على مؤسسة الجيش والأمن إلى القفز للاستيلاء.. على السلطة.
التحدى الآخر المطروح هو نموذج «التنمية؟» واللافت فى الحالة اللبنانية هو حجم «خسائر» البلاد التى فضحها الانهيار المالى، حوالى 70 مليار دولار، أى أضعاف مضاعفة عن حجم الأموال المطلوبة للنهوض بالبنى التحتية وباقتصاد البلاد ومجتمعها. وفى الواقع، لا يُمكن أن تترسّخ سلطة تهيمن على الدولة دون احتكار موارد البلاد، مهما كانت، لمصلحتها بغية استخدامها فى استزلام الولاءات. سواء أكانت تلك السلطة تعددية أم شمولية. ما يعنى أنه لا يُمكن أن يكون هناك تنمية ولا إعادة إعمار بعد الحروب أو الكوارث دون بالتحديد تقويض «ريوع» السلطة من موارد البلاد أو من الخارج. هذه هى معركة الحفاظ على «المال العام» والإدارة المالية والنقدية التى لا يُمكن أن تُخاض دون قضاء مستقل (والقضاء مؤسسة أساسية فى الدولة) ودون حريات عامة تسمح بمحاسبة السلطة القائمة.
بالتأكيد، لا تسمح الأنظمة الشمولية بوجود الحريات العامّة. واللافت أن الحريات العامة فى البلاد التى شهدت انتفاضات الطموح إلى الحرية والكرامة أضحت أسوأ اليوم مما كانت عليه قبل الانتفاضة. حساسية مفرِطة تجاه انتقاد السياسات العامة ومحاسبة السلطة القائمة. «الزَم الصمت وإلّا.»... وكان لبنان فى المقابل يعيش حالة «قل ما تشاء ونحن سندير البلاد كما نشاء.. ستصوّت فى النهاية لنا، لأنّك ستحتاج للخدمات والأموال التى نوزعها إذا ناصرتنا».
• • •
لكنّ الواقع اليوم هو تقليص الخدمات بعد الأزمة حتى عن حدها الأدنى، فلا كهرباء ولا طبابة ولا أجور، وفقر ينتشر بشكل واسع. هكذا تحولت المعادلة إلى توجيه اللوم على «الآخر»، اللاجئ السورى وإلى قمع الحريات: «كل المصائب تأتى من اللاجئين... فاسكت حتّى نجد لهم حلا».
بالتأكيد أيضا، تحمل لبنان والشعب اللبنانى عبئا كبيرا جدا من اللاجئات واللاجئين السوريين. ولكنهم اليد العاملة الرخيصة لأعمال لا يقوم بها اللبنانيون واللبنانيات، حتى قبل الصراع السورى، فى كافة البلدات والقرى. وهذا ما يزيد من إنتاجية البلاد. وأتت معهم مساعدات خارجية توزع أغلبها بالليرة اللبنانية عليهم من قبل أحد المصارف اللبنانية. ما يعنى أن هذه المساعدات تأتى بعملة صعبة لاقتصاد البلد وتنمى الاستهلاك والإنتاج. كما جلب وجودهم مساعدات أخرى خارجية لدرء أعباء تواجدهم وكذلك الأزمة الحالية. ليس كل السوريين فى لبنان لاجئين، بل أيضا بينهم أصحاب مهن وفعاليات اقتصادية عانت من الصراع فى سوريا ومن العقوبات ثم فقدت أموالها فى الأزمة كما اللبنانيين. ولا علاقة للسوريين بالانهيار المالى اللبنانى، فهو نتيجة سياسات السلطة «التعددية» وتورط عدة دول خارجية معها.
ليس لوم «الآخر»، المقيم، حكرا على الوضع اللبنانى، بل يتردد عموما فى جميع البلدان، حتى تلك «الديموقراطية»، زمن الأزمات. فـ«الآخر» مكسر عصا الأزمات ومبرر كبح الحريات. وفى مناخ التهييج حول «الآخر»، يتم إسكات أصوات المحامين اللبنانيين لدفاعهم عن أموال المودعين وتجاوزات السلطة، ويتم كبح القضاة الذين يحققّون فى التجاوزات أو يطردون، ويتمّ اعتقال السوريين الشباب دون إقامة صالحة وإرسالهم إلى الحدود، فى حين لا تعمل مؤسسات الدولة أصلا لتنظيم إقامتهم.
فالمطلوب من المحامين والقضاة الالتزام بقواعد مسار «اللا إصلاح» كى يفقد المودعون الأمل ويتحملون طوعا الخسارة المالية الكبرى. وعلى السوريين اللاجئين أن يستزلموا لـ«أمراء حرب» لبنان كى يحصلوا على إقامات ومساعدات وخدمات، كما اللبنانيين.
ليس من السهولة بمكان إيجاد حل لأوضاع لبنان. ربما الأفضل أن يَرحل أو يُرحَّل جميع السوريين إلى سوريا دفعة واحدة وتتحمل السلطة هناك عبئهم. رغم أن هذا لن يعيد اللبنانيين، وخاصة الشباب، الذين هاجروا من جراء الأزمة بحثا عن عمل كريم. ليس فقط لأنهم فقدوا الأمل بـ«الإصلاح» وتجاوز الانهيار المالى، بل خاصة لأن لبنان يفقد ميزته الأساسية.. وهى الحريات العامة.
تبقى الحريات العامة هى مكمن التحدى الحقيقى للنموذج اللبنانى ورهانه الأساسى هو قدرته على الحفاظ عليها. إنها الثروة التاريخية التى لا يُمِكن لا للنفط والغاز ولا لتدفق السواح والمستثمرين التعويض عنها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved