الأخلاق والسياسة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 14 يونيو 2010 - 10:26 ص بتوقيت القاهرة

 أعترف للقارئ بأن ما أكتبه يخالف المعتقدات الشائعة عن أن السياسة الذكية هى التى لا تعرف قواعد أخلاقية وأن السياسيين الماهرين هم الذين ينجحون فى الوصول إلى أهدافهم بأى طريق، والسبب فى شيوع هذه المعتقدات ينسب إلى مقولة ذاعت عن المفكر الإيطالى نيقولا ماكيافيللى من أن الغاية عنده تبرر الوسيلة، وأنه فى كتابه الأمير نصح حكام الدويلات التى كانت قائمة فى إيطاليا فى عصره بأن يلتزموا أحيانا بأخلاق الثعالب فى إدارتهم لشئون الدولة، ولكن بشرط أن يجمعوا معها أخلاق الأسود. أى أن يعتمدوا على المكر والقوة لتوطيد دعائم حكمهم.

إلا أن تأمل ما جرى فى مصر وحولها خلال الأسابيع الأخيرة دعانى إلى معاودة النظر فى هذه المعتقدات الشائعة، وجعلنى أتأمل فى الجوانب الإيجابية التى تنتج عن الالتزام بحكم الأخلاق فى السياسة، وفى الجوانب السلبية التى تترتب على الابتعاد عن حكم الأخلاق.

وبطبيعة الحال سيسأل ما هو تعريفك للأخلاق؟. أليست هناك معايير أخلاقية متفاوتة إن لم تكن متناقضة مع تباين الثقافات. هل ما يعتبر سلوكا أخلاقيا سليما فى الثقافة العربية هو كذلك فى الثقافات الغربية؟ وهل الدعوة إلى الالتزام بالأخلاق تكفى وحدها لوصول السياسة، أى سياسة، لأهدافها.

وجوابى عن السؤال الأول أن هناك معايير معينة ارتضتها الإنسانية فى مجال عمل الدول، بل قد أصبح ذلك التزاما قانونيا دوليا على هذه الدول تسأل عن مدى اتباعها له، وأكثر من ذلك ففى بعض أقاليم العالم، مثل أوروبا والأمريكتين والقارة الإفريقية، يمكن محاكمة حكومات الدول التى تخرج عن هذه المعايير الأخلاقية.

وأقصد بذلك المفهوم العالمى لحقوق الإنسان، والذى تمت ترجمته فى اتفاقيات دولية، من أهمها الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية، والتى وقعت وصدقت عليها الحكومة المصرية، وأصبحت بذلك نافذة فى إطار القانون الداخلى، بل جرى الاستناد إليها أمام المحاكم المصرية التى قبلت بذلك، وأصدرت حكما شهيرا فى سنة 1987 ببراءة سائقى القطارات من تهمة الخروج على القانون لتنظيمهم إضرابا عن العمل، وهو ما رأت المحكمة، وكانت محكمة أمن دولة، أنهم يستحقون البراءة، لأن مصر ملزمة بحكم اتفاقية دولية أخرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأن تتيح للعمال حق الإضراب، وذلك وفقا للحجة التى طرحها المرحوم الأستاذ نبيل الهلالى الذى ترافع عن سائقى القطار المضربين فى هذه القضية.

المجتمع الدولى قد ارتضى أن يكون الالتزام الأخلاقى للدول هو اتباع مبادئ حقوق الإنسان التى قبلتها هى بحكم مشاركتها فى صياغتها ثم توقيعها وتصديقها عليها. وهذا هو حال مصر.. ولابد هنا أن ننوه بأننا دائما نقول إن ثقافتنا العربية الإسلامية فيها ما يفوق الشريعة الدولية لحقوق الإنسان. سأقبل ذلك، ولكن السؤال هو مدى التزام حكومتنا بالأخلاق التى تنبع من كل هذه المرجعيات.

مدى التزام حكومتنا بحكم الأخلاق فى سياستها الخارجية.

سأضرب مثلا نعرفه جيدا، أى معايير أخلاقية أخرى لها حكم واضح وصريح فيه، ألا وهو معاناة الفلسطينيين فى غزة المحاصرة. معايير حقوق الإنسان هنا واضحة لأنها تحظر حرمان أى شعب من وسائل حصوله على غذائه وكسب قوته.

وهذا التزام قانونى. وهو قبل أن يكون التزاما قانونيا هو التزام أخلاقى. أخلاقنا المصرية لا تقبل المشاركة فى التجويع، وتحض على مساعدة المحتاج، وهو ما تدعو إليه الأخلاقيات العربية والإسلامية والمسيحية. ومع ذلك شاركت الحكومة المصرية فى حصار قطاع غزة، وشيدت جدارا فولاذيا لإحكام الحصار.

وادعت أن سبب ذلك هو حماية الأمن القومى المصرى من تسلل عناصر إرهابية. ووضعت كل العراقيل أمام وصول مساعدات دولية لأهالى القطاع المحاصرين، ولعلك تذكر ياعزيزى القارئ ما فعلناه مع حملات دولية ومصرية استهدفت إيصال معونات للقطاع، وكم المقالات التى زخرت بها صفحات الصحف الحكومية تبريرا لهذه الإجراءات.

معبر رفح كان يفتح من وقت إلى آخر، وكان يسمح بمرور أعداد من الفلسطينيين من خلاله، ولكن ذلك بكل تأكيد لم يكن كافيا لسد احتياجات مليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين يعيشون فى القطاع، كما أن البضائع التى تمر من خلاله كانت فقط هى تلك التى تحظى بموافقة إسرائيل، والتى لم تكن تقبل مرور الأسمنت والحديد اللازمين لإعادة بناء مساكن غزة المهدمة حتى يجد الكثير من سكانها الذين شردوا نتيجة الهمجية الإسرائيلية فى حربها الفاشلة ضد القطاع مأوى لهم، ومازالت السلطات المصرية لا تقبل مرور هذه السلع الضرورية حتى الآن.

صحيح أنه إلى جانب معبر رفح هناك خمسة معابر أخرى تسيطر عليها إسرائيل، وأن إسرائيل هى المسئولة أساسا عن حصار القطاع، ولكن هنا يثور البعد الأخلاقى للمسألة. ألم تكن اعتبارات النخوة والأخوة العربيتين تقتضيان فى هذه الحالة أن تبذل مصر جهودا مضاعفة لتوسيع معبر رفح وزيادة كمية السلع المارة من خلاله تعويضا عن التضييق الذى تفرضه إسرائيل.

وهو عمل لو اتخذ فسيكون متوافقا مع القانون الدولى متمثلا فى اتفاقيات حقوق الإنسان، وإذا كانت إسرائيل تنتهك القانون الدولى والالتزامات الأخلاقية النابعة من القيم الإنسانية التى ترفض تجويع أى شعب، أليس من واجبنا مناهضة هذا السلوك عمليا، وليس المشاركة فيه ولو جزئيا ووفقا للشروط الإسرائيلية..

وليس من الصحيح هنا القول بأن ما كان يصل إلى قطاع غزة من خلال معبر رفح والمعابر الأخرى كان كافيا لتزويد سكان القطاع بحاجاتهم الأساسية، فتقارير المنظمات الدولية قاطعة فى أن سكان القطاع لا يتلقون كفايتهم من الغذاء والأدوية، وأن الحصار أدى إلى توقف النشاط الاقتصادى فى القطاع مما ألقى بأعداد كبيرة من سكانه فى هوة البطالة والفقر.

مدى التزام حكومتنا بحكم الأخلاق فى سياستها الداخلية
لن أخوض كثيرا فى هذه المسألة، ولكن اكتفى بأن أذكر بقضيتين ربما قرأت تفاصيلهما على صفحات «الشروق». هناك أولا ذلك التعذيب البشع الذى تعرض له الشاب خالد محمد سعيد دونما أى ذنب جناه. سأقول، وهذا غالبا ليس صحيحا، نفترض أن الشاب القتيل كان تاجرا للمخدرات كما تقول وزارة الداخلية، هل مشهد رأسه المشوه هو كما قيل بسبب تناول جرعة كبيرة من البانجو.

هل تلتزم أجهزة وزارة الداخلية بأبسط المعايير الأخلاقية فى تعاملها مع المواطنين الذين لا حول لهم ولا نفوذ، وما هو نوع المعايير الأخلاقية التى طبقتها حرفيا فى تعاملها مع رجال أعمال متهمين يبحث عنهم القضاء غادروا مصر أو اختفوا فى مصر دون أن تظهر وزارة الداخلية أى همة لا فى تعقبهم فى الداخل أو الخارج، ولا فى الاعتراض على خروجهم من مصر، وأيادى بعضهم ملوثة بدماء عشرات، بل ومئات المصرين الذين ماتوا بسبب ممارساتهم الفاسدة.

ثم هناك أيضا اعتقال الناشط الشاب طارق خضر عضو حركة 6 أبريل والذى قضى فى معتقلات عديدة أكثر من شهر، وماطلت وزارة الداخلية فى الاعتراف بوجوده رهن الاعتقال، ثم صرحت أخيرا بأنه معتقل وفقا لقانون الطوارئ، ومن المعروف أن نشاطه الذى أدى إلى اعتقاله هو توزيعه دعوة للمواطنين للانضمام للجمعية المصرية للتغيير. الجريمة الأخلاقية هنا هى ببساطة الكذب الصريح. ولا أظن أن هناك شريعة أخلاقية فى أى مكان فى العالم تبرر الكذب.

هل يفيد الابتعاد عن الأخلاق؟
والسؤال المهم هنا، هل استفادت الحكومة المصرية من ابتعادها عن الأخلاق؟ لا أعرف على وجه التحديد ما الذى استفادته الحكومة المصرية من أسلوبها فى التعامل مع قضية حصار غزة. بالطبع نالت رضا الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، ولكن هذا لم يحل دون انتقاد المندوب الأمريكى فى مجلس حقوق الإنسان سجلها فى هذا الملف، وها هو الرئيس الأمريكى يدعو الآن إلى أسلوب آخر فى التعامل مع قطاع غزة، وهو ما يمثل إدانة ضمنية لحصار القطاع الذى شاركت فيه مصر.

هناك تلك الأصوات الخبيثة التى تتحدث عن توقعات لدى كبار المسئولين فى مصر فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، ولكن حتى لو صح ذلك فتلك هى المصالح الخاصة لهؤلاء المسئولين، ولكنها ليست مصالح وطنية. أما فيما يتعلق بتعذيب ومقتل خالد محمد سعيد واعتقال طارق خضر، فقد أعيانى البحث عن أى فائدة تحققت بهذا المسلك.

ولكن حساب الخسارة واضح وطويل. خسرت الحكومة المصرية بمشاركتها بطريقتها الخاصة فى حصار غزة قدرا أكبر من مصداقيتها أمام الشعب المصرى والشعوب العربية والإسلامية، وخصوصا وهى تعود الآن لتدعى أنها ترفع القيود على مرور الأشخاص والشاحنات من معبر رفح.

وخسر كتابها ما تبقى لهم من مصداقية أمام قرائهم وهم لا يجدون حجة فى الدفاع عن قرار كانوا قد هاجموا الداعين له من قبل. ثم خسرت الحكومة المصرية تعاطف الشعب الفلسطينى وقطاع مهم من الشعوب العربية معها بسبب وجودها فى نفس الموقف مع إسرائيل.

ثم خسرت أيضا كل ادعائها بقيامها بدور إقليمى نشط فى الدفاع عن الحقوق الفلسطينية والعربية، تاركة هذا الدور لدولتين غير عربيتين هما تركيا وإيران. بل ولم يعد للحكومة المصرية على الصعيد الدولى أى قدرة على المساومة والحوار الفعال مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية مادامت تسلم برغباتهما على طول الخط. وقارن فى هذا الصدد بمكانة كل من تركيا ومصر لدى هاتين الحكومتين.

لقد عززت تركيا مكانتها الدبلوماسية بهذا الموقف المستقل، وأصبحت لاعبا دوليا يجب الاستماع له بينما لا تجد من يريد أن يستمع إلى وجهة نظر مصرية فى هذا المجال. وفى مجال حقوق الإنسان واجهت الحكومة المصرية الأسبوع الماضى موقفا حرجا فى محافل دولية بسبب سجلها غير المشرف فى مجال حقوق الإنسان، وذلك أمام كل من مجلس حقوق الإنسان، ولجنة المعايير بمنظمة العمل الدولية.

قد يقال إن كل ذلك لا يهم، الابتعاد عن المعايير الخلقية لم يهدد وجود الحكومة المصرية وبقاءها فى السلطة. أقول لك هذا صحيح حتى الآن، ولكن فقدان أى حكومة للشرعية، وهو الناجم هنا عن غياب هذه المعايير الأخلاقية هو أمر خطير، لأنه يعنى أن نظام الحكم الذى يفتقد الشرعية، لن يجد من يدافع عنه عندما يتهدد وجوده لأى سبب من الأسباب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved